تذكيرا بالنصر المنسى: عن الحرب الإسرائيلية على لبنان...وتداعياتها!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 14 يوليه 2009 - 7:01 م بتوقيت القاهرة

 صارت الذاكرة العربية بلا قعر، تتراكم فيها الأحداث، وغالبا ما تكون نكبات أو نكسات أو سقطات أو هزائم غير مبررة، فتتسرب منها إلى النسيان، دون«محاكمة» لأسبابها واستفادة من دروسها أو محاولة استخلاص العبر لرسم خطة الخروج من زمن الانكسار إلى أفق زمن جديد نحاول أن نصنعه بإرادتنا بعد كل ما استوعبناه أو عرفناه أو اكتشفناه من وجوه الخلل التى تمنع علينا النجاح.

أما الهزائم فسجلاتها حافلة بحيث باتت تتداخل تواريخها مقدمة ما يشبه جدول اللوغاريتم.

وأما الانتصارات اليتيمة فهى معدودة ومحدودة، ومع ذلك فإننا نجتهد فى نسيانها، فإن عجزنا عن النسيان لجأنا إلى تشويهها أو تفريغها أو التهوين من تأثيرها على سياق الأحداث فى غدنا المهدد بالوأد.

1ــ على سبيل الاستذكار، نشير إلى أن «العرب» المشغولين بتقديم المزيد من التنازلات للإسرائيليين بوهم اكتساب رضا الإدارة الأمريكية وتعاطفها، قد تجاهلوا بقصد مقصود «الاحتفال» بمرور ثلاث سنوات على الحرب الإسرائيلية على لبنان، علما بأنها الحرب الوحيدة على العرب التى لم تكسبها إسرائيل.

حتى بمنطق من لا يريد الاعتراف للمقاومة المجاهدة فى لبنان بتحقيق نصر مؤزر وعبر مواجهة بطولية امتدت لثلاثة وثلاثين يوما بلياليها، واستخدم فيها العدو الإسرائيلى كل أنواع أسلحة التدمير وأحدثها، تحت تغطية سياسية شاملة شاركت فيها الإدارة الأمريكية من موقع القيادة بينما التحق بها معظم النظام العربى فضلا عن أوروبا متحدة وبالمفرق..

لكأنما العرب يستمرئون الهزيمة ويخافون من النصر، لأن «كلفته» عالية: فالنصر ولو محدود فى الزمان والمكان قد يأخذهم إلى مواجهة واسعة ومكلفة لا هم يريدونها ولا هم على استعداد لدفع أكلافها، بل إنهم يفضلون أن يقبعوا هانئين فى قلب واقعهم المهزوم.. كأنما كلفة الهزيمة، بحساباتهم، أقل بما لا يقاس من كلفة النصر الذى سيجبرهم على العودة إلى الميدان الذى هجروه وألقوا عليه يمين الطلاق بالثلاثة مفترضين أن الهزيمة هى بوليصة تأمين النظام العربى القائم..

حتى قيام الساعة!
لم يلتفت العرب إلى الاضطراب العظيم الذى عاشه، وما زال يعيشه، الكيان الإسرائيلى، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، نتيجة أن حكومته قد خاضت ــ بكل قدراتها ــ حربا شاملة، جوا بالأساس وبرا بمختلف أنواع السلاح، بما فى ذلك أحدثه، وبحرا، ضد تنظيم شعبى يقاوم، لا هو دولة، وليس له جيش، وإنما لديه إرادة عظيمة وإيمان راسخ بعدالة قضيته وبحقه فى أرضه..

فعجزت القوة الإسرائيلية الجبارة عن الانتصار، حتى بعدما أحرقت نصف لبنان، واضطرت إلى«وقف العلميات الحربية»، بينما المجاهدون يطاردون «قوات النخبة» فيها ويجبرونها على الانسحاب المذل بعد فشلهم فى التقدم وتثبيت مواقع لها داخل أرض الجنوب اللبنانى المقاوم.

2ــ كان لبنان وحده خلال الحرب.. ومن أسف فإنه لم يكن موحدا. لكن النار الإسرائيلية، والاستفزاز الأمريكى العلنى بدعم الحرب على المقاومة والذى أربك أهل النظام العربى، كل ذلك أجبر القوى السياسية فى لبنان، حتى تلك التى لا تقول بالمقاومة ولا تريدها، ومن ضمنها الحكومة القائمة آنذاك بأكثرية وزرائها، على التماسك خلف المقاومة التى أثبتت بصمودها الأسطورى القدرات غير المحدودة للإيمان بالشعب وبالحق، إذ هى تنفخ روح العزة فى الصدور، وتخرج فتخرس الأصوات التى طالما قالت بالاستسلام ونصحت بعدم المقاومة!

وتحت ضغط الدول، وبروز القيادة الأمريكية للحرب الإسرائيلية، بشخص وزيرة الخارجية آنذاك كونداليزا رايس، بدأ «الفرز» الإجبارى للقوى السياسية، داخل لبنان وعلى المستوى العربى.

حتى صدر البلاغ السعودى الشهير الذى برر الحرب الإسرائيلية بـ«المغامرة» التى أقدم عليها مجاهدو «حزب الله» حين اختطفوا بعض الجنود الإسرائيليين، داخل الأرض اللبنانية، لمبادلتهم بمئات الأسرى اللبنانيين والعرب المحتجزين فى السجون الإسرائيلية منذ سنوات طويلة، بل ومنذ عقود إذا ما استذكرنا سمير القنطار، فضلا عن جثامين لشهداء لبنانيين وفلسطينيين ومن جنسيات عربية أخرى.

بعده اتخذ الفرز سياقا مدمرا، لقد انحدر من السياسة إلى المستوى الطائفى والمذهبى.. وتكشفت المواقف الفعلية للنظام العربى إذ تركز الاعتراض على إقدام «حزب الله» على «مغامرته»، مع تجاهل لحقيقة أن إسرائيل قد شنت حربا بكل جيوشها وأسلحتها على لبنان، وليس على طائفة أو مذهب فيه.

وإن هى كانت تحرص على الادعاء أنها إنما استهدفت مراكز تجمع الحزب الذى صار فى عينها طائفة.. وقد قبل منها «العرب» هذا الموقف المخادع، بوصفه مخرجا لحرجهم من التخلى عن «قطر شقيق»!

بالمقابل توحدت إسرائيل، حكومة و«شعوبا مؤتلفة» داخل كيانها العنصرى ،«يسارا» ويمينا، متدينين و«علمانيين» و«كفرة».

عكس موقف العرب الهاربين من الحرب، انقساماُ حادا داخل لبنان، لم تنفع «السياسة» فى تبريره دائما، فانزلق إلى مهاوى الشقاق الطائفى والمذهبى بما ينذر بتفجير الفتنة..

من قبل، كانت الإدارة الأمريكية ومعها الاتحاد الأوروبى وخلفهم «النظام العربى» قد نجحوا فى طمس هوية الصراع، ومسخه من صراع إسرائيلى ضد كل العرب، مجتمعين ومتفرقين، إلى صراع إسرائيلى ــ فلسطينى، مع جهد متواصل لجعله يبدو ــ فى غمرة الخلافات الفلسطينية ــ الفلسطينية وكأنه صراع إسرائيلى ضد «بعض» الفلسطينيين «المتطرفين»!!

3ــ أما فى لبنان فإن من آثار هذا الانشقاق بل التخلى العربى أن تتبدل هوية الصراع وأن يتم تغييب العدو الإسرائيلى، ليتم تظهير الصراع وكأنه داخلى بحت، عربى ــ عربى، ثم لبنانى ــ لبنانى، ثم سنى ــ شيعى!

أدخلت إسرائيل فى لعبة السلطة فى لبنان، ونشأ نوع من «التحالف» العربى ــ الإسرائيلى بعد استحضار إيران كقوة داعمة لحزب الله.. ومن ثم سهل قلب الحقائق ليبدو وكأن «حزب الله» إنما شن حربا بالتكليف، من أجل إحراج حكام العرب أمام شعوبهم!

انفتحت جبهة جديدة لحرب أخرى تغطى على الحرب الإسرائيلية على لبنان بعد محاولة تمويه استهدافاتها، حضر بقوة الاحتلال الأمريكى للعراق، والتخوف من آثار «الانتصار» فى لبنان على قوات الاحتلال الأمريكى هناك، وعلى شروط «الصفقة» التى تخطط الإدارة الأمريكية لتمريرها مع إيران.

على حساب وحدة العراق أرضا وشعبا وكيانا سياسيا، ومع انكشاف العجز الإسرائيلى عن حسم الحرب خلال بضعة أيام أو أسبوعين أو ثلاثة، انهارت إمكانات توظيف الحرب الإسرائيلية على لبنان فى المشروع الأمريكى للمنطقة عموما،
كان لا بد من إنقاذ ماء الوجه عربيا.. وهكذا وبعد افتضاح أمر العجز الإسرائيلى عن حسم الحرب على الطريقة التى اشتهرت بها (بضعة أيام لا تزيد على أسبوع) بدأتها تطل الوفود العربية على لبنان، وكلها قد جاء بإذن إسرائيلى معلن!

جاء الوفد المصرى، الذى أريد إضفاء الطابع الشعبى عليه، مع كونها برئاسة «ابن الريس» السيد جمال مبارك، وفى عداده بعض الوزراء، وبعض الكتاب والأدباء والصحفيين، وكثرتهم من العاملين فى مؤسسات رسمية أو لحسابها.

ثم جاءت الجامعة العربية بوفود طار بعضها من القاهرة، وطار بعضها الآخر من عمان، وكان على الجميع أن يحصلوا على إذن إسرائيلى بالطيران.. تماما مثلهم مثل الوفد الشعبى المصرى، ومثل الزوار الآخرين الذين جاءوا إلى لبنان!
جاء الجميع بإذن إسرائيلى معلن..

وجاء الجميع إلى السرايا الحكومية، والتقوا رئيس الحكومة: لم يجرؤ أحد على زيارة رئيس الجمهورية، أو رئيس المجلس النيابى، فضلا عن محاولة ــ مجرد محاولة ــ تنظيم لقاء مع قائد المقاومة، السيد حسن نصر الله، أو حتى مع بعض معاونيه. أما زيارة «الجبهة» فكانت طلبا يتجاوز الخيال!

4ــ ونتيجة لهذا كله فإن هذه الزيارات قد ساعدت على توسيع الشرخ فى الجبهة الداخلية فى لبنان، بدل أن تكون الحرب الإسرائيلية فرصة تاريخية لتوطيد الوحدة الوطنية، برعاية عربية شاملة، وباعتراف للجهد المشرف للمقاومة الإسلامية ــ الوطنية فى دحر الحرب الإسرائيلية، مما يمكن لتظهير التضامن العربى المعزز لانتصار إرادة الشعب اللبنانى.

باختصار: ضيع النظام العربى نصرا تاريخيا على دولة العدو الإسرائيلى فى الحرب الوحيدة التى اعترف بخسارتها، وشكلت فيه لجان التحقيق فى أسباب الفشل وتعثر الجيوش الذى لا يقهر، وانهيار حاجز الأمان الذى كان يصور إسرائيل كتلة صماء تخوض حروبها جميعا خارج «حدودها» ويبقى داخلها آمنا يمارس حياته الطبيعية بينما «دول الجوار» هى التى تتفكك ويحكم عليها بالخروج من دائرة الصراع.
بل إن هذا النظام العربى ذاته قد بادر وقدم مساهمات خطيرة (ومهينة لشعوبه) فى ترميم صورة إسرائيل «الدولة التى لا تقهر»!

لقد تولى هذا النظام العربى، العاجز إلى حد إلغاء أمته ودوله وشعوبه، ترميم صورة إسرائيل كدولة فى هذه المنطقة، لها حق القرار فى حاضر العرب ومستقبلهم، ولها الحق فى أن تكون «دولة اليهود» فى العالم، وليذهب شعب فلسطين إلى جحيم التشرذم والإذلال.

لقد أعطيت إسرائيل بعد حرب لبنان، التى فشلت فى الانتصار فيها، ما عجزت عن تحقيقه بالقوة قبلها!
كذلك فقد أعطيت إسرائيل بعد حربها المدمرة (ومن طرف واحد) على غزة، ما عجزت عن تحقيقه قبلها!

فها هى التسهيلات العسكرية الجديدة لإسرائيل فى عبور غواصاتها وسفنها الحربية لقناة السويس، بحرية مطلقة! وبعد اتفاقات الغاز والبترول والإقفال بالنار للمعابر إلى ما تبقى من فلسطين!

لقد أدمن النظام العربى الهزيمة، وبات يرعبه احتمال النصر على إسرائيل، ولو بالمصادفة القدرية.

إن أمان هذا النظام ودوامه مرتبط بإسرائيل المنتصرة، فهل تريدون منه أن يتواطأ على نفسه فيقف إلى جانب طموحات شعوبه فيربح الحرب لا قدر الله ويخسر نفسه؟!
تلك هى القضية، أيها القابضون على جمر إيمانكم بأمتكم وقدراتها، فاتقوا الله فى أنظمتكم وهرولوا إلى إسرائيل مصالحين بشروطها، تكن لكم مع السلام السلامة والأمان وراحة البال.. وكفى الله المؤمنين بالسلام الإسرائيلى شر القتال!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved