الفيصل.. الأب والابن بناة الدبلوماسية السعودية

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: الثلاثاء 14 يوليه 2015 - 1:50 م بتوقيت القاهرة

على إثر سيطرة قوات عبدالعزيز آل سعود على معظم أراضى الجزيرة العربية وإعلان قيام المملكة العربية السعودية عام 1923 وتنصيبه ملكا عليها، قرر تعيين نجله فيصل سفيرا لدى الدول الكبرى فى ذلك الوقت وهى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وتركيا، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الأمير فيصل المسئول الأول عن الشئون الخارجية ثم تولى رسميا وزارة الخارجية وظل بها حتى بعد أن أصبح ملكا على البلاد ثم خلفه ابنه سعود فى هذا المنصب.

وقد تولى له الأمير سعود الفيصل رئاسة الدبلوماسية السعودية فى أكتوبر 1975 فى ظروف عصيبة إثر مقتل والده الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله واستمر فى هذا المنصب لمدة أربعين عاما شهدت المنطقة خلالها أحداثا جساما.. فقد قامت إسرائيل بغزو لبنان ثلاث مرات فى سنوات 1978 و1982 و2006 واجتاحت قطاع غزة مرتين وعمت فلسطين انتفاضتين كبيرتين، وقام العراق بغزو إيران عام 1980 ثم غزو الكويت عام 1990 ثم قامت الولايات المتحدة بغزو العراق عام 2002، كما شهد عهده أكبر تحول فى العلاقات المصرية السعودية والعربية بوجه عام على إثر توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وقطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر والدول العربية عدا السودان وعمان.. وشهد عهده انفصال السودان إلى شمال وجنوب وانهيار الصومال، كما شهد عهده الحرب الأهلية اللبنانية الضروس التى دامت خمسة عشر عاما ثم انتفاضات وثورات وتقلبات «الربيع العربى» التى أسفرت عن اندلاع حروب أهلية وطائفية طاحنة فى كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا واستشراء آفة الإرهاب العالمى.

وقد استطاع سعود الفيصل، وسط هذه الأنواء العاصفة الشديدة أن يحقق إنجازات عديدة سيذكرها له التاريخ، وعلى رأسها اتفاق الطائف الذى أنهى الحرب الأهلية اللبنانية وأعاد الحياة الطبيعية لهذا القطر الشقيق، كما أطلق مبادرة السلام لحل القضية الفلسطينية التى تبنتها الدول العربية بالإجماع والتى تدعو إلى انسحاب إسرائيل من جميع الأراضى المحتلة وإقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية والحل العادل لمشكلة اللاجئين، وبالرغم من بساطة المبادرة إلا أنها أحدثت انقلابا دبلوماسيا فى الأوضاع، لأنه منذ بداية المشكلة الفلسطينية والعرب يتبنون موقف الرفض، أى رفض مبادرات الآخرين دون أن يطرحوا هم حلا، لذلك فإن المبادرة السعودية ألقت الكرة فى ملعب إسرائيل التى رفضت المبادرة وأصبحت فى موقف الدفاع.. كان سعود الفيصل يأمل فى أن يرى الدولة الفلسطينية المستقلة فى حياته وكان يقول ــ دفاعا عن مبادرته ــ إنه إذا لم يحقق اعتراف جميع الدول العربية بإسرائيل الأمن لإسرائيل فلن يحققه السلاح مهما بلغت قوته.

●●●

بالرغم من قطع العلاقات الرسمية بين مصر والسعودية لمدة ثمانى سنوات (من 1980 إلى 1988)، إلا أن العلاقات استمرت فيما يخص العمالة المصرية والتبادل التجارى، ولم يطرأ أى تغيير على مبنى السفارة المصرية سوى رفع العلم السودانى عليها بدلا من العلم المصرى وتغيير المسمى إلى «قسم رعاية المصالح المصرية».. بالطبع توقفت الاتصالات السياسية وإن استمرت بعض القنوات الخلفية من خلال حذف أسامة الباز وسكرتير الملك فهد بن عبدالعزيز.

وقد صحبت الدكتور بطرس غالى وزير الخارجية بالنيابة إلى اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية بالكويت فى مارس 1979 وهو آخر اجتماع شاركت فيه مصر قبل تعليق عضويتها بالجامعة ــ ثم أعلن أن الرئيس الأمريكى كارتر وصل إلى القاهرة وأنه يقوم بجولة مكوكية بين مصر وإسرائيل سعيا وراء التوصل إلى حل للمشكلات المتبقية فى مشروع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.

فى اليوم الأخير لاجتماع مجلس الجامعة الذى انتهى بعد منتصف ليلة 31 مارس 1979 طلب الأمير سعود الفيصل مقابلة الدكتور بطرس غالى وتمت المقابلة فى جناحه بالفندق فى نحو الساعة الثالثة فجرا.. وكانت مقابلة قصيرة وذات طابع رسمى جاف وغريب على العلاقات العربية.. سأل الأمير سعود هل ستوقعون؟ وأجاب د. غالى إذا كان كارتر قد تغلب على الصعوبات فلا يوجد عائق أمام التوقيع.. وسأل الوزير السعودى وهل نطمع أن تبلغونا قبل التوقيع؟ وأجاب د. غالى بأنه لا يستطع أن يعد بذلك إلا أنه سينقل هذه الرغبة إلى الرئيس.. انتهت المقابلة والجميع يغامرهم شعور بأنها الأخيرة على هذا المستوى وإلى أن يمضى حين من الدهر لا يعلم إلا الله مداه.

لذلك فقد كان من دواعى سرورى ودهشتى عندما التقيت بالملك فهد بن عبدالعزيز وقدمت له أوراق اعتمادى كأول سفير لمصر بعد استئناف العلاقات وبحضور الأمير سعود وزير الخارجية، ــ أن أشار الملك فهد إلى اتفاقية كامب ديفيد بقوله إنه واثق أن الطرف النادم على اتفاق كامب ديفيد هو إسرائيل وأن مناحم بيجين قد قال ذلك من سنين..

ثم أخذ الملك يتحدث عن العلاقات المصرية السعودية فى إسهاب شديد فقال: إننا فى السعودية لم نكن نعرف إلا مصر.. فمصر هى طب العرب وهى هندسة العرب وهى فن العرب وأدب العرب وسياحة العرب. المصريون لدينا عباقرة فى كل شىء.. أجمل الأصوات وأرقى الفنون وأرفع الآداب وأمهر الأطباء والمهندسين وخير المعلمين.. إلى أن قرر عبدالناصر سحب العمالة المصرية ومن يومها قررنا تنويع مصادر العمالة وعدم الاعتماد على مصدر واحد ومع ذلك فمازال لمصر نصيب الأسد ومركز الصدارة.. ليس فى العمالة الوافدة فحسب ولكن فى جميع المجالات حتى الاستثمار بالرغم من وجود تاريخ طويل من المعاناة ومن القوانين واللوائح التى تصدر ثم تلغى.. ثم أخذ الملك ــ لدهشتى ــ يسرد.. فى إسهاب طويل ــ تجربة شخصية له مع التعقيدات المصرية.. قد تتاح لى فرصة أخرى لسردها.. وعند تعيينى سفيرا لدى المملكة العربية السعودية فى ديسمبر 1987، كان قد مضى على قطع العلاقات بين البلدين قرابة الثمانى السنوات جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسور وتتقاذف فيها أعلام البلدين والمسئولون فيهما كلاما سيئا ومسيئا ظل مذاقه فى الحلوق وصداه فى النفوس حتى حين وصولى كسفير لمصر بعد استئناف العلاقات يوم 31 ديسمبر 1987، والسفير فى مثل هذه الظروف يجد نفسه يرتطم كل حين «بكلاكيع» من مخلفات قطع العلاقات.. خاصة أن التغيير فى السعودية بطىء جدا والوجوه التى عايشت فترة انقطاع العلاقات هى نفسها التى تستقبلك بعد استئنافها وكل لديه قصة وتجربة شخصية.

وقد كان من أوائل هذه «الكلاكيع» موضوع الهيئة العربية للتصنيع.. فقد ظل الوزير السعودى المسئول عن هذا الموضوع يتحدث معى بمرارة وعلى مدى أربع ساعات عن المشروع وكيف كانت السعودية من أشد المتحمسين له وأنها أوفت بتعهداتها بالرغم مما تعرضت له من لطمات مثل قرار الرئيس السادات بعزل الأمير سلطان بن عبدالعزيز عن رئاسة الهيئة واختيار لفظ تنحية الأمير سلطان، ونشر ذلك بالوقائع المصرية وكيف أن السعودية حولت نصيبها فى رأسمال الهيئة وقدره 250 مليون دولار بشيك سلمه هو شخصيا إلى السيد أشرف مروان بلا ضمانات ولا شروط وكذلك فعلت الإمارات حتى بلغ رأسمال الهيئة 650 مليون دولار وقامت الهيئة بإيداع المبلغ بالبنوك الأجنبية ولم يودع منه فى السعودية سوى خمسة ملايين دولار، وزيادة على ذلك فعندما اشترطت شركة وست لاند البريطانية تقديم تعهد بشراء الطائرات الهليوكوبتر التى ستنتجها الهيئة ودفع جزء من الثمن مقدما، قدمت السعودية تعهدا بشراء 15 طائرة ودفعت 50 مليون دولار مقدما قبل أن يوضع حجر الأساس لهذه المصانع.

كان الأمير سعود لا ينظر إلى هذه الأمور مثل هذه النظرة الضيقة.. كان سعيدا بعودة العلاقات مع مصر وواعيا لأهمية هذه العلاقات، ومصمما على تنحية هذه المخلفات حتى تنطلق العلاقات بلا عوائق، لذلك فعندما عقد اجتماع بينه وبين الدكتور عصمت عبدالمجيد أخذ المسئول السعودى المختص بالملف فى عرض الموضوع بنفس نهج التلاوم وعاتق المسئولية والأصول والخصوم، فطلب منه الأمير سعود ــ بأسلوب دمث ــ مغادرة الغرفة ثم شرع فى وضع الأمر فى حيزه الطبيعى مما أدى إلى الانطلاق نحو الحل.

●●●

انطلقت العلاقات المصرية السعودية كأقوى مما كانت وكأن شيئا لم يكن وكان التشاور والتنسيق فى جميع المجالات، واذكر أنه بعد انقلاب البشير ــ الترابى فى السودان، عمدت السعودية إلى التشاور مع مصر قبل الاعتراف بالنظام الجديد وقد استدعانى الأمير سعود وقال لى «أنتم أدرى بشئون السودان ونود أن نسترشد برأيكم»، وبعد يوم واحد من هذا اللقاء حملت له الرد الرسمى الذى وصلنى من القاهرة والذى يفيد بأنهم «مجموعة وطنية ليس لهم أى انتماءات سوى المصلحة الوطنية»، وقد دهش الأمير سعود من هذا التقييم وقال بالنص «أنتم متأكدين من هذا الكلام»، فقد كانت معلوماتهم أن هناك انتماءات إسلامية سياسية تتعدى الحدود.

واستأذن أن أخرج قليلا عن السياق لكى أتمم هذه القصة، فعند عودتى لمصر، سألت الدكتور بطرس غالى عن هذا التقييم الغريب فقال لى: «إنه تقييم المخابرات وأضاف قائلا.. وأنا هعمل إيه، أنا قلت لهم رأيى ولم يأخذوا به»، وقد أثبتت الأيام صحة تقييم الدكتور بطرس والتقييم السعودى على الأقل فى حقبة سيطرة الترابى على الحكم فى السودان.

●●●

رحم الله فقيد العرب والدبلوماسية وجزاه الله عن أمته خير الجزاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved