أوباما.. ليته كان رئيسًا أسود

محمد المنشاوي
محمد المنشاوي

آخر تحديث: الخميس 14 يوليه 2016 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

اعتقد كاتب هذه الكلمات أن وصول أمريكى أسود لمنصب الرئاسة وجلوسه على قمة الهرم السياسى الأمريكى فى البيت الأبيض منذ أكثر من سبع سنوات كفيل بالإعلان عن نهاية العنصرية القبيحة التى عرفتها أمريكا على مدى تاريخها. تخيلت مع كثيرين أن فوز الرئيس باراك حسين أوباما فى الانتخابات يدشن لمرحلة أطلق عليها «ما بعد العنصرية PostــRacial Society». واعتقدت أنه ومع اللحظة التى ستطأ فيها أقدام رجل أسود البيت الأبيض ستعد لحظة انتهاء وتخطى أسوار العنصرية، وأن انتخاب أوباما ليكون الرئيس الـ44 للولايات المتحدة، يكون قد أزال آخر حاجز عنصرى فى السياسة الأمريكية. ورأيت أن هذا التحول التاريخى الذى شهدته أمة مثقلة بإرث عنصرى فى دولة كان منذ 143 عاما يعتبر الأسود فيها عبدا يدشن لتاريخ جديد.

إلا أننى أرى اليوم أن أوباما رفض أن يكون رئيسا أسود، وفضل نتيجة إيمانه وقناعاته الخاصة أن يبتعد فى سلوكياته وسياساته عما يوصمه أو يضعه فى خانة الأفارقة الأمريكيين.

***

بعد وصول أوباما للبيت الأبيض أدخل بنتيه «ساشا وماليا» إلى مدرسة سيدويل العريقة والباهظة التكاليف فى أرقى أحياء العاصمة الأمريكية. تبلغ تكلفة المدرسة سنويا للتلميذ الواحد ما يقرب من 40 ألف دولار. ولم يختر أوباما أن يدخل بناته إلى المدارس الحكومية المجانية فى واشنطن، والتى تكتظ فى معظمها بأولاد السود والفقراء، وهو ما كان من شأنه إلقاء الضوء والاهتمام بهذه المدارس وتنميتها بوضعها تحت دائرة الضور نظرا لوجود أولاد الرئيس بها. أختار أوباما أن يدخل بناته نفس المدرسة التى دخلتها تشيلسى ابنه الرئيس كلينتون ودخلها أولاد الرؤساء نيكسون وروزفلت، وغيرهم كثيرون. ورغم رمزية هذه الحالة، أراها مركزية فى إدارة اوباما لملف العنصرية واستمرار انتهاكات الشرطة للشباب الأسود، والأهم عدم مواجهة تراث وواقع الفقر والجريمة والتهميش للسود الأمريكيين.

***

فى كلمة ألقاها فى مدينة دالاس بولاية تكساس أثناء مراسم تأبين رجال الشرطة الخمسة منذ أيام أنكر أوباما أن أمريكا ليست منقسمة، كما قد يبدو على أساس العرق أو السياسة، رغم التوترات العنصرية التى تشهدها البلاد. وسقط رجال الشرطة الخمسة، وأصيب سبعة آخرون برصاص قناص أسود انتقاما لانتهاكات رجال الشرطة البيض للأمريكيين السود، والتى كانت آخر فصولها مقتل أثنين فى ولايتى مينيسوتا ولويزيانا، وهى الحالات التى تم تصويرها وبثها على شبكة التواصل الاجتماعى ومحطات التليفزيونات حول العالم، وهو ما غير من ديناميكيات الحادثة وأثار الانتباه إليها.
وهكذا وقبل خمسة أشهر على مغادرته للبيت الأبيض، تزيد التساؤلات عما إذا كان أوباما سيقدم مقترحات جادة لمواجهة القضايا العنصرية، وكيفية التصدى لأجواء الخوف وانعدام الثقة المتفشية فى فئات عدة من المجتمع الأمريكى. نعم ليس أوباما مسئولا وحده عن ذلك، لكن الواقع يظهر أن الولايات المتحدة أكثر استقطابا من ذى قبل، ولنا فى صعود دونالد ترامب نموذجا. ويمتد الاستقطاب ليقسم بين السود والبيض، وبين الفقراء والأغنياء، وبين الديمقراطيين والجمهوريين، وببين المحافظين والليبراليين.

***

ميراث العبودية فى أمريكا شديد القبح، ورغم توقف استيراد العبيد من أفريقيا عام 1806، فإن الأمر تطلب حربا أهلية ضروسا للتغلب على هذا التراث. ولاتزال هناك مظاهر مختلفة من التفرقة غير القانونية، وهى تفرقة بأثر رجعى تتمثل فى عدم الاندماج الكامل للسود بنسب تعكس تعدادهم فى الحياة العامة رغم وجود رئيس أسود. من هنا يصعب القول: إن الأمريكى الأسود قد نال كل الحقوق، والفرص المتاحة لنظيره الأبيض بعد، نعم تحسنت ظروف معيشة السود بشكل عام، لكن الفوارق لا تزال قائمة. صحيح أنهم لم يعد يمنعون من دخول المطاعم والمسارح ودور السينما، ونعم هناك الكثير من رؤساء الشركات ورؤساء المدن والصحفيين والناجحين فى كل المجالات، إلا أن هناك معضلات تعصى على الحل أمام ما يقرب من 40 مليون أمريكى أسود من أهمها الفقر إذ يعيش 26% من السود تحت خط الفقر، وتبلغ هذه النسبة 14% على المستوى القومى، ويقصد بالفقر هنا حصول عائلة مكونة من أربعة أفراد على أقل من 24 ألف دولار سنويا.

وفى التعليم يتعرض التلاميذ السود فى حالات الإخلال بالنظام لعقوبات أكثر صرامة من نظرائهم البيض، ويجد الكثير من التلاميذ السود أنفسهم فى مدارس ضعيفة التجهيز. وفى مجال الصحة العامة، يبلغ معدل عمر الأمريكى الأسود أقل من نظيره الأبيض بـ6 سنوات. إلا أن أسوأ المعضلات يتمثل فى قطاع العدالة ونظام المحاكم، إذ يتعرض السود أكثر من غيرهم لرقابة الشرطة فى الأماكن العامة، كما أن احتمال الحكم عليهم بالإعدام يبلغ أربعة أضعاف احتمال الحكم على البيض فى الجرائم المشابهة. وهناك الكثير من الأمثلة الدالة على تهميش السود وصعوبة حصولهم كل الحقوق والمزايا التى ينعم بها نظراؤهم البيض.

***

لم يشارك أوباما فى حفل تأبين الراحل محمد على كلاى، الذى هو أحد أهم الأمريكيين السود فى التاريخ أثرا وقيمة ودورا وتقديرا. غاب أوباما لمشاركته فى حفل تخرج ابنته الكبرى من مدرستها التى لا يوجد بها إلا سود يعدون على أصابع اليد. وبدلا من الإسراع والسفر لولاية تينيسى للمشاركة فى المناسبة التى شارك فيها بيل كلينتون، اختار أوباما أن يفعل مثلما يفعل كل آباء زملاء ابنته من البيض بتناول الغداء بمطعم مرموق بمنطقة جورج تاون. وذهب أوباما وعائلته لمطهم «ميلانو» وتناولوا الغداء على الرغم من توافر الوقت للسفر بعائلته لتأبين أهم أبطال السود الأمريكيين بعد حفل المدرسة.

***

بعد انتهاء فترة حكمه عام 2000، اختار الرئيس الأسبق بيل كلينتون منطقة هارلم بمدينة نيويورك مقرا رئيسيا لمؤسسته التى تحمل اسمه، ويقع بها مكتبه الرئيسى. وهارلم هى القلب النابض وسط أحياء السود فى نيويورك، ومنح اختيار كلينتون لها قيمة كبيرة للمنطقة كلها. على العكس من كلينتون، اختار أوباما أن ينتقل للعيش فى بيت أنيق فى إحدى مناطق واشنطن الراقية التى يندر أن يسكن فيها الأفارقة الأمريكيون، وذلك بعد انتهاء حكمه فى بدايات 2017.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved