مؤنس الملك

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 14 يوليه 2017 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

هناك عدد قليل من الكتب التى تعد على أصابع اليد الواحدة أو أصابع اليدين هى التى تشكل حياة الإنسان، وهنا نحن نستبعد من هذه الكتب؛ الكتب المقدسة لأنها أسمى من أن نتناولها هكذا، نحن نتحدث هنا عن كتب من تأليف البشر إما قصة حياتهم أو رواية عميقة الفلسفة من خيالهم تأثرنا بها وغيرت شيئا ما فى حياتنا، أو كتاب قرأته فى لحظة فارقة نقلنى من دائرة كنت أقف متمسكا بها على أنها حياتى كلها وإن ضاعت أضيع وإذ بالكتاب يفتح لى آفاقا واسعة جعلتنى أرى الدائرة التى أقف عليها أقل كثيرا من الدوائر التى يمكن أن أنتقل إليها. عندما اتخذت هذه الخطوة أصبحت الدائرة التى كنت متمسكا بها إحدى الدوائر لكنها ليست الكبرى ولا العظمى فيهن وأذكر لك ــ عزيزى القارئ ــ بعض هذه الكتب بالاسم فقط وسأعود لأكتب عن كل واحد منها فى المستقبل كلما سنحت الفرصة، تأثرت فى بداية حياتى بكتاب قرأته بالإنجليزية ثم تمت ترجمته بعد ذلك تحت عنوان «العادات السبع للناس الأكثر فاعلية» والعنوان الفرعى دروس فعالة حول تغيير الشخصية تأليف ستيفن آر. كوفى وهذا الكتاب لم أقرأه فقط لكنى درسته وحفظت مقاطع منه عن ظهر قلب، وهو شكل الكثير من طريقة تفكيرى وكيفية صنع القرار. كتاب آخر «تقرير إلى غريكو» للأديب اليونانى العالمى نيكوس كازانتزاكس، وغريكو هذا هو جد نيكوس وهو عبارة عن سيرة ذاتية له فى صراعه بين الدين والإلحاد، وكيف كان فى شبابه يتجه أن يكون رجل دين أرثوذكسى والصراع الرهيب الذى حدث داخله فى زياراته للأديرة وتفكيره المنطقى وانتهى به الأمر أن وجد نفسه فى الأدب وحصل على جائزة نوبل، ومن أشهر رواياته: «زوربا اليونانى» و«المسيح يصلب مرة ثانية» و«الإغواء الأخير للمسيح». أما الكتاب الثالث فهو كتاب «بانتظار بدر البدور» لبطرس بطرس غالى المصرى (يوميات 1997 ــ 2002) بعد خروجه من الأمم المتحدة هذا الذى صار أول أمين عام للأمم المتحدة من الوطن العربى كله وحتى اليوم، فى الوقت الذى لم يعينه السادات وزيرا لخارجية مصر. الكتاب الرابع باللغة الإنجليزية عنوانه التدريب الخامس The fifth disciplineو مؤلفه peter m. sevge وهو من أعظم كتب الإدارة وأشهرها عالميا. 
أما الكتاب الخامس والذى سأعرضه عليك بعنوان «مؤنس الملك» للكاتب المغربى الفرنكفونى الماحى بينين ولعلك تلاحظ ــ عزيزى القارئ ــ أن هذه الكتب والتى كونت ثقافتى وشكلت عقلى ليست فى اتجاه أدبى واحد، بل يمكن اعتبارها بحسب المثل المصرى المشهور (سمك ــ لبن ــ تمر هندى) فمنها الروائى ومنها المذكرات الشخصية ومنها فى علم الإدارة ومنها تكوين الشخصية ولا يشابه كتاب منها الآخر، وشعرت بأن هذا كان امتيازا لى على الرغم من أننى لم أقصد ذلك حيث تشكلت شخصيتى بطريقة مختلفة.
***
بالعودة لكتاب الماحى.. هى قصة والد المؤلف الذى كان يعمل مؤنسا للملك ومسليا له فى عهد الملك الحسن الثانى (1961 ــ 1998) وقد قيلت قصص كثيرة عن هذا الملك الذى عاش حياته كملوك ألف ليلة وليلة، كانت الحاشية تضم المهرجين والمؤنسين، وكان يتم اختيار الحاشية بمقاييس فى منتهى الدقة فى موهبة اللطف وإطلاق النكات والثقافة العامة والشعبية، كانت الحاشية بجوار المؤنس؛ موسيقى ملقب بالساحر وعازف العود وراوى قصائد وطبيب ومنجم وقزم، وهؤلاء كان الملك يستأنس بهم عندما يشعر بالملل وكان أقربهم إلى الملك هو المؤنس، ومن سوء حظ المؤنس قامت ثورة ضد الملك الحسن عام 1971 بقيادة جنرال فى الجيش يدعى أوفقير لكنها فشلت، والمأساة أن أحد أبناء المؤنس كان أحد الضباط المتمردين مع أوفقير. لكن عندما عرف أن أحد المتمردين ابن المؤنس طرده. وكان على المؤنس أن يجاهر برفضه لابنه بل وإنكاره وإلغاء انتسابه إليه ووصمه بأنه خائن للوطن علانية، وهو ما جعل زوجته تغضب منه وقبيلته أيضا، وقد ترك القصر وعاد إلى بيته الذى أنكر ابنه منه فكان الموقف قاسيا جدا حيث سألته زوجته هل كرهت ابنك؟ ابنى.. قال بتأثر شديد: لا، لقد فعلت ذلك لأجلك ولأجل أسرتنا وقبيلتنا حتى أحميكم جميعا لقد كان يتمزق بين الملك وأسرته.
الذى لفت نظرى فى الرواية الحقيقية هذه أن المؤنس تحدث عن العشرين سنة الأولى للملك والتى كان فيها حاسما حازما ديكتاتورا رهيبا على الرغم من تمثيلية الديمقراطية: البرلمان والوزارة.. إلخ وكان الملك قاسيا جدا، حكى لى أحد الأصدقاء المغاربة أن الملك كان لديه قصر من أفخم قصور العالم، فى حدائقه أكثر من حمام سباحة ضخم تستحم فيه أجمل بنات المغرب وغير المغرب الذين يستقدمونهم خصيصا لهذا العمل، والملك كان كل ليلة يختار واحدة منهن، وهذه التقاليد كانت من ملوك كسرى وفارس والبابليين والآشوريين، وحكى لى أن كل الذين يدخلون إليه لابد لهم من تقبيل يديه وأحيانا قدميه. تقابلت مع صديقى المغربى فى المغرب وسألته: هل نفس الحال يتم مع الملك الحالى محمد السادس؟ قال: لا؛ من أول يوم دخل القصر ألغى كل هذه المظاهر من الترف المبالغ فيه وخفض عدد الحاشية وجعل معظمهم من المثقفين، وبالطبع العهدة على الراوى.
فى السنوات العشر الأخيرة من حكم الحسن الثانى يقول المؤنس إن الملك تحول إلى شخص آخر ولكى يثبت هذا التغيير يتذكر أن الملك فى المرحلة الأولى جاءه أحد الوزراء يستعجله فى إمضاء أحد الملفات، فإذا بالملك يأمر بإدخاله إلى الإسطبل طوال ليلة بكاملها، أما بعد أن دخل المرحلة الثانية لاحظ الملك أن ضوءا منبعثا من غرفة الهدايا فقرر أن يكتشف من بها فوجد لصا منهمكا فى السرقة والاختلاس وحاول المؤنس أن يزجر اللص ويطرده، إلا أن الملك وهو يشعر بدنو أجله وضعف جسده شجع السارق على السرقة والانصراف قبل أن يمسك به أحد، ولا شك أن هذا التغيير فى الطبائع خاصة بكل من كان له سلطان على البشر أو منصب حساس أو يمتلك ناصية أموره وله موظفون وعمال... إلخ، نجده كلما مرت الأيام وأحس بالضعف الجسدى يكون أكثر حنوا وشفقة بل ودموعه حاضرة فى أى موقف كان أكبر منه بكثير لا يدمع منه فى شبابه. أيضا أعجبت بحديث الرجل وهو يتحدث عن دخوله لأول مرة القصر بعد تعيينه يقول: «إن التحاقى بالقصر وضع حدا، لما كنت أتمتع به من حرية فى مدينة مراكش «ندخل إلى القصر الملكى مثلما نعتنق ملة، لأن الانخراط فى سلكه يكون كاملا كليا باتجاه واحد، عندما ننخرط فى القصر الملكى لا تعود هناك إمكانية للتراجع بأى شكلٍ من الأشكال أو طريقة من الطرق».

***

من الناحية الأخرى اشتدت صداقته الإنسانية بالملك كلما كبرا فى الأيام لدرجة أنهما صارا أندادا دون كذب أو إخفاء للعواطف، ويأتى اللقاء الأخير بينهما تراجيديا إنسانيا عاطفيا بامتياز يقول: «لا هو ولا أنا كنا نريد أن نغش سيدى. كان ينتظر أن أنظر إليه كما ننظر إلى صديق محتضر ولا يحتاج إلى الكذب، كان قلبى يخفق بشدة وأنا أقدم على حركة غير معقولة كنت أستحق عليها مائة جلدة، لو أن الظروف عادية.. حركة ما كان لأحد أن يسمح بها، أمسكت يد مولاى بين يدى وضغطت عليها بقوة رفع الملك عينيه نحو أزهار الجوكاندا وقال: «لن أراها قط.. أليس كذلك؟ قلت: لا.. لن تراها بعد اليوم يا مولاى».

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved