الصبر والصبير

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 14 يوليه 2018 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

أخذ يراقب الحمام وهو يملأ الحافة ويتدافع فوقها، ثم انصرف إلى متابعة حركة بائع التين الشوكى وهو يقطع ويغلف أحد أنواع الصبار الذى يحتاج الكثير من الصبر لكى ينمو بشكل جيد... سنة أو أكثر حتى يتكاثر ويزهر.
مؤخرا صار لا يريد أن يشعر أنه قضى حياته ركضا وراء الأشياء، وقد قضاها هكذا بالفعل، من مكان لآخر، ومن هدف إلى ثان وثالث. لم يكن مقتنعا أن كله بأوانه، وأن المهم أن يفعل الشيء المناسب فى الوقت المناسب، وإلا ضاع عمره هباء فى الركض الرخيص المذل، وفى محاولات بائسة لتطويع القدر.
التين رغم أشواكه، إلا أنه لذيذ ومغذى. هو الطعام المفضل للإبل فى المناطق الصحراوية يرتوون من ساقه المليئة بالماء، فلديه قدرة عجيبة على مقاومة الجفاف بسبب تخزينها للسوائل. يتذكر كيف كان يمتد شجر التين الشوكى على شواطئ رمال العجمى قديما، وكأنك فى المكسيك، موطنه الأصلى، وكيف اختفى تدريجيا مع الزحف العمرانى وانتشار غابات الأسمنت البشعة.
***
راح يتأمل اسمه لدى شعوب عربية أخرى مجاورة، إذ يطلقون عليه «الصبر» أو «الصبير»، وبالطبع فيه شيء من اسمه. تمر على النبات فترات البرد وفصل الشتاء، فينتظر الحر كى يؤتى ثماره وتباع على الأرصفة لترطب قلوب الغلابة فى الصيف، حتى لو لم تعد رخيصة كسابق عهدها.
تمر علينا فترات نحن أيضا نود لو اكتسبنا مبكرا صبر الصبير وتعودناه طواعية قبل أن يضطرنا الزمان إلى ذلك. هل ترتبط قلة الصبر بنقص الثقة فى الذات وفى وجود قوة إلهية تسير الأمور، فنتعجلها قبل أوانها المكتوب؟ لا نثق أننا قادرون على تحقيق هذا الفعل أو ذاك، وأن هناك من يدعمنا، وربما أيضا تمت برمجتنا جميعا على فكرة «الآن فورا«، دون أن نترك الوقت للوقت، ودون أن نتوقف قليلا لنشاهد بعين أخرى ما حولنا، عين الصبر المتأملة. نشيطن إيقاع الحياة، فتقل بركته، ونقضى يومنا فى سيارات مكدسة على الطرقات، وفى انتظار مرور أحد المسئولين فى موكبه الفخيم، ولا نعرف إلى متى سنمر على الأشياء مرور الكرام، دون أن نتوقف عندها ونراها بالفعل ونفهم معناها.
***
لا نعرف كيف نعيش اللحظة بكل ما فيها، دون أن نلهث فى التفكير فيما سيأتى غدا وفى مستقبل يخيفنا أحيانا فيفسد اللحظة. نتوقع الأسوأ لأن الأيام لم تكن رحيمة معنا على الأغلب. نتسرع لكى نلفظ قلقنا ونقضمه قضما كثمرة الصبير، ثم نهرع إلى شيء آخر. نمر إلى جوار الحاضر دون أن نراه أو نستمتع به، مهما كانت الصعوبات، ونعيش فى حالة انتظار دائم لما سيأتى بعد.
لا نفهم أن الصبر مثل التين الشوكى أو الصبير شجرة جذورها مرة، لكن ثمارها غنية بالمواد السكرية، وأن الصبر هو قوة الضعيف، ونقطة ضعف القوى الذى يريد أن يفرض إرادته فورا وأن يأمر فيطاع، حتى لو كان الوقت والظروف غير مناسبين. هو يريد أن يضيف إلى سجل إنجازاته، مهما كان الثمن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved