الفوسفات والناس

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الأربعاء 15 يوليه 2020 - 11:08 ص بتوقيت القاهرة

نحصل على الفوسفات الذي نحتاجه من الطعام الذي نأكله وبدون الفوسفات لا يمكن أن ننتج غذاءنا فهو كالماء والأكسجين والكربون. ولهذا يعتبر الفوسفات واحدا من الموارد الرئيسية الحرجة الآن. وقدرت بعض الدراسات الحديثة أننا ربما نستهلك خمسين ضعفا لما يحتاجه الجسم فعلا. ولا أدرى فى الحقيقة ما تأثير هذه الزيادة الكبيرة على الصحة ولكن المثير أن هذا الذى يصل إلينا فى طعامنا لا يشكل إلا نحو خمس ما يستخرج من المناجم ويفقد الباقى فى سلاسل النقل والتوزيع. وتمثل البحار والمحيطات ــ طريق النقل الرئيسى للخامات من البلاد المصدرة كمصر للبلاد المستوردة كالهند مثلا ــ مشكلة كبيرة وتقدر بعض الدراسات أن الكميات الكبيرة المفقودة فى البحار يمكن أن تؤثر على الشعاب المرجانية ويؤدى إلى تكاثر أنواع من الطحالب مما يؤثر فى النهاية على حجم الثروة السمكية المتاحة.
المصدر الرئيسى تاريخيا للفوسفات الذى يضاف إلى المزروعات هو المواد العضوية وخاصة روث الحيوانات والذى مازال يمثل أكثر قليلا من عشرة فى المائة من الاستهلاك العالمى للفوسفات. وكان لاكتشاف إمكانية تحويل الفوسفات الصخرى إلى سماد رخيص أثر كبير فى دفع عمليات التنقيب عن الفوسفات فى أنحاء العالم. وفى عام 1910 عثر مستر جريفز على مواقع لوجود الفوسفات بالقرب من مدينة القصير ثم تشكلت بعدها الشركة الإيطالية لاستخراج ومعالجة خام الفوسفات. وازدادت أهمية الفوسفات خاصة بعد بداية الثورة الخضراء فى نهاية ستينات القرن الماضى والتى لعبت فيها الأسمدة الفوسفاتية دورا مهما.
***
كانت أول زيارة لى لمدينة القصير فى أواخر القرن العشرين وذلك بعد شهور قليلة من توقف مصنع شركة الفوسفات عن إنتاج الخام المركز وتصديره ولذلك لم أرَ بعينى كيف كانت مدينة الفوسفات ترزح تحت وقع السحابة الصفراء من أتربة الفوسفات بسبب العمليات المختلفة لتركيزه أو بسبب تعبئته فى سفينة تنتظر فى الميناء وإن كنت قرأت عما كانت تلك الأتربة تفعله فى العاملين وسكان المدينة. ولكننى رأيت عدة مرات وحتى وقت قريب تلك السحابة فى ميناء الحمراوين شمال القصير بنحو عشرين كيلومترا وأعرف كثافتها ولكنى لم أقف فى داخلها مطلقا لحسن الحظ.
كانت الشركة تدعم العاملين لديها بالطعام أو ما يعرف بالوجبة والتى يتذكر بعض سكان القصير اليوم أنها كانت تحتاج عدة أشخاص لحملها للبيت كما كانت تساعدهم فى صيانة المفروشات والأعمال المختلفة من خلال الورش المتنوعة الموجودة فى الشركة وأيضا كانت تمدهم بالكهرباء وكان لدى البعض من العاملين فى بيوتهم عدادان للكهرباء أحدهم للكهرباء المنتجة فى الشركة والآخر للكهرباء العامة.
لكن هل فعلت الشركة ما يكفى للعناية بالعاملين بها وهل إنشاء مستشفى لعلاجهم هو اهتمام كافٍ أم أنها فقط كانت تركز على مصلحتها المباشرة وكانت تضمن العمل لأولاد العاملين بمقابل مجدٍ حتى بدون تعليم عالٍ أو متخصص مما يمكن أن ترى أثره اليوم على مدى تأهيل القوى العاملة فى المدينة. أم أن هذه المسئولية ربما كانت تقع على الحكومة التى من مسئوليتها رعاية مواطنيها والاستثمار الأمثل فيهم وخاصة من خلال التعليم. ويظهر بوضوح فى وقت التحول للأنشطة السياحية كيف أن غياب هؤلاء القادرين على استخدام لغة أجنبية أخرى أثر فى فرصهم للحصول على فرص عمل فى القطاع السياحى الناشئ (بالطبع بالإضافة إلى مؤهلات أخرى ولكن هذا كان التبرير الأساسى لمديرى المنتجعات فى القصير حينما سُئلوا عن عن عدم استعانتهم بشكل كاف بأهل المدينة).
وما يستحق التأمل والتفكير أيضا دور المؤسسات الرسمية ومسئوليتها عن تطوير النظر طويل المدى والتأثيرات المختلفة لصناعة الفوسفات ليس على البيئة فقط ولكن على الإنسان والمجتمع فى القصير. أحيانا ما أتساءل هل كان من الضرورى وقف مصنع الفوسفات تماما فى القصير بالرغم من تلويثه البحر وتلويثه الهواء ولماذا لم يتم تحويل النشاط الصناعى لآخر لا يضر بالبيئة بدلا من إيقافه كليا وبما ينقذ آلاف الوظائف. التحول البيئى كما هو واضح الآن يمكن فى الحقيقة أن يخلق وظائف جديدة لا أن يتسبب فى إنهاء الكثير منها.
***
ارتبط الفوسفات بالناس فى القصير منذ بداية القرن العشرين وحتى نهايته فى صورة إنتاج وعمليات تركيز ولكن تأثيره وربما وجوده لم ينتهِ بانتهاء عمليات الشركة فى القصير. مازالت هناك كمية هائلة من الأتربة الفوسفاتية الناتجة عن التصنيع تنتظر بيعها أو ربما إعادة استخدامها فى ما ينفع. أتصور أن أتربة الفوسفات التى تنفسها الناس لعقود طويلة لم تزل فعليا فى أجساد العديد منهم وربما حتى فى الأجيال الأصغر فهى ماتزال فى تربة المصنع وربما يتطاير البعض من الأتربة فى الهواء فيتنفسه الناس وأعرف أن الماء المستخدم فى تركيز الخام كان يعاد ملوثا بكميات كبيرة من الفوسفات كانت فى بعض الأوقات تحيل ماء البحر للون الأصفر ولا شك أننا بحاجة لمعرفة مدى تأثير تصريف تلك المياه الملوثة على مدى عقود عديدة على البيئة البحرية الثمينة للغاية المقابلة والمجاورة للمصنع.
فى إحدى الدراسات السكانية التى قمنا فيها بتتبع تطور السكان فى مدينة القصير منذ بدأ التعداد السكانى فى مصر فى آخر عهد محمد على وحتى الآن وجدنا أن تعداد سكان المدينة والذى تزايد بشكل مرتفع للغاية مع بداية تعدين الفوسفات شهد أيضا تراجعا مع توقف نشاط الشركة (كانت هذه المرة الأولى التى أرى فيها تعداد سكان يتراجع بهذه الصورة) وبالرغم من أن الإحصاءات تشير إلى أن سكان المدينة الآن فى تزايد مرة أخرى إلا أننا قدرنا تعداد سكان المدينة الآن قد فقد ما يمكن تقديره بنحو عشرة آلاف نسمة (من إجمالى الآن نحو خمسين ألف نسمة).
بينما شكل الفوسفات جزءا هاما من ماضى مدينة القصير الحديث ربما يكون أيضا فى التعامل مع آثار الفوسفات بجدية وبصورة تضع الناس فى قلب الاهتمام هو أحد الركائز الرئيسية لمستقبلهم. نتساءل ليس فقط لكى نتعلم ولكن ربما الأهم أن نقوم بإصلاح ما يمكن. ولابد أن هناك الكثير مما يمكن القيام به بشراكة حقيقية بين شركة الفوسفات وأهل المدينة مع الجامعات المهتمة بالمدينة وبدعم من وزارة البيئة ومعهد علوم البحار ووزارة الصناعة والشركة القابضة للتعدين وبالطبع فى وجود ودعم المؤسسات الرسمية التابعة لها المدينة لاقتراح وتطوير خطة لتطوير مكان المصنع ومبانيه بصورة تتكامل مع المناطق الأخرى فى المدينة. خطة تهدف لازدهار مستدام للمدينة وفى قلبها هؤلاء البشر السمر الرائعون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved