ديليسبس وتمثاله

جورج إسحق
جورج إسحق

آخر تحديث: الثلاثاء 14 يوليه 2020 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

أثارت فكرة عودة تمثال ديليسبس إلى قاعدته فى مدخل قناة السويس ضجة هائلة لمنع عودة هذا التمثال فى مدخل قناة السويس، وأصدرت عدة هيئات ومنظمات مجتمعية بيانات تطالب بمنع عودة التمثال. حيث بدأت القصة فى بورسعيد فى 23 ديسمبر سنة 1956 حين قام الأهالى بالتوجه إلى تمثال ديليسبس فى مدخل القناة ابتهاجا بخروج آخر جندى من قوات الاحتلال، وقامت بنسف التمثال ابتهاجا بخروج آخر رموز الاستعمار.
وبين الحين والآخر تثار قضية إعادة التمثال ويواجه أهالى بورسعيد هذا الموضوع بالرفض... قام بنحت التمثال النحات الفرنسى (إيمانويل فريميت)، وقد أثار المصريين أن جنود الإنجليز والفرنسيين قبل رحيلهم وضعوا علمين أحدهم بريطانى والآخر فرنسى على يدى التمثال ودهنوا التمثال بالشمع حتى لا يستطيع أحد الوصول لنزع الأعلام، ووضع على رأس التمثال غطاء رأس (بيريه) من وحدة مظلات فرنسية. هذا المنظر استفز أبناء بورسعيد، واشترك البكباشى سمير غانم قائد العمليات الفدائية ببورسعيد بفتح حقيبة سوداء فيها 12 قالبا من المتفجرات، وسقط التمثال بعد المحاولة الثالثة لتفجيره.
***
حاول بعض محافظى بورسعيد أن يعيدوا التمثال إلى قاعدته ولكن أهالى بورسعيد تصدوا لهذه الفكرة، حيث قام الكثير من الكتاب والنقاد بإدانة هذا الموقف وآخرها كانت مقالة مهمه لعبدالله السناوى فى جريدة الشروق بأن الوثائق المصرية والفرنسية تثبت أن ديليسبس قام بأخطر عملية احتيال فى التاريخ. حيث امتلكت مصر 44 بالمئة من رأس مال شركة قناة السويس دون أن يكون لها أى سيطرة على أمورها. إلى جانب سقوط 120 ألف مصرى فى حفر قناة السويس فى حين كان تعداد مصر فى ذلك الوقت 4 ملايين. وماتوا نتيجة استخدامهم فى حفر قناة السويس بالسخرة مما أصاب العالم كله بالفزع. وتم إلغاء السخرة فى العالم كله عندما وصلت الأنباء إلى العالم أن هناك 120 مصريا ماتوا وهم يحفرون قناة السويس بالسخرة.
وفى نفس الوقت أصدر مثقفو وكتاب مصر بيانا استنكر فيه ما وصفه بعودة تمثال فيردناند ديليسبس المشئوم على رأس قناة السويس ببورسعيد. وقال البيان أن ذلك يعد جريمة فى حق شعبنا المصرى وتحديا لإرادة شعبنا الباسل التى أسقطت تمثالا من منصته التى نصبته فوقها سلطة الاحتلال. وأصبح سقوطه تعبيرا عن استرداد عزة الوطن وثأرا لشهدائه. وهذا النصاب الذى يريدون تكريمه أدانته بلاده فرنسا وحكمت عليه بالسجن 5 سنوات بتهمة الاحتيال، وحكمت على ابنه بالعقوبة نفسها كما حكمت على حفيده بالإعدام بتهمة الخيانه الوطنية.
فهل هذا الرجل نريد تكريمه برفع تمثاله فى مدخل قناة السويس؟ وقال بيان مثقفى وكتاب مصر أيضا أنه عمل ينافى منطق التاريخ والمشاعر الوطنية، بل يستفذ مشاعر المصريين.
***
ومن جرائم ديليسبس أيضا خيانته والتمهيد للإنجليز بهزيمة عرابى، وسمح للقوات الإنجليزية بعبور قناة السويس، وقد كان عرابى يفكر فى ردم القناة حتى لا يدخل الإنجليز عن طريقها. ولكنه لم يفعل إذ خدعه رئيس شركة قناة السويس وقتها ديليسبس بأنه سيقف على الحياد ولن يسمح بأساطيل الإنجليز الحربية بالمرور من خلالها ولكنه لم يف بوعده. وفوجئت قوات عرابى فى ظهر 13 سبتمبر 1882 بدخول الإنجليز عليهم، وبذلك أصدر السلطان العثمانى فرمانا بعصيان عرابى وهو ما لعب دورا فى وضع خط النهاية للثورة العرابية.
***
هل هذا الرجل بكل جرائمه يستحق أن نرفع تمثاله؟ ثم إن فكرة شق قناة بين البحر الأحمر والبحر المتوسط فكرة قديمة منذ الفراعنة حتى تبناها ديليسبس، وبذلك من يتكلم عن عبقريته... فهذه ليست فكرته.
فرفع هذا التمثال فى بورسعيد عند مدخل قناة السويس إهانه لنضال شعب بورسعيد وشهداء المقاومة سنة 1956.. فما هو البديل؟ البديل هو أن تقام مسابقة بين النحاتين المصريين بنفس مقاييس تمثال ديليسبس لأحد العمال الذين ماتوا أثناء الحفر، ولدينا من النحاتين المصريين العباقرة وهناك نماذج مصغرة للفلاحين والعمال الذين اشتركوا فى حفر قناة السويس، نريد أن نتبنى فكرة اتحاد الكتاب بجمع تبرعات لعمل تمثال لهؤلاء الشهداء ورفعه مكان تمثال ديليسبس. أعتقد أن الشعب البورسعيدى بكل فئاته وخاصة الشباب منهم الذى يقاوم رفع هذا التمثال لأنه يمثل الاستعمار بكل صوره من خيانه واستغلال الثروة المصرية والتحكم فى ممر مائى شديد الأهميه والخطورة، وذلك لأننا فى مرحلة إحياء الروح الوطنية ومطالبة وزارة التربية والتعليم أن يتضمن كتاب التاريخ فى المراحل المختلفه قصة حفر قناة السويس بكل تفاصيلها، وتضحيات شهداء المصريين، وكذلك جرائم فيردناند ديليسبس الذين يريدون أن يرفعوا تمثاله. نحن فى مرحلة بناء جيل جديد يتمتع بالوعى وحقائق التاريخ دون تزييف ودون مجامله، والكلام على أن فرنسا سوف تمنح مصر 50 مليون دولار سنويا برفع هذا التمثال، هذا كلام يضر بالعزة الوطنية والاعتزاز بالوطن وتاريخه.
إن ملحمة 56 ودور الفدائيين فيها دور لا يمكن أحد أن ينكره، وأنا أحد المعاصرين لهذه المرحلة. فكانت بورسعيد بعد مواعيد حظر التجول تنقلب إلى شعلة من النار فى مواجهة الإنجليز والفرنسيين. فهل جزاء هؤلاء الشهداء أن نرفع تمثالا لرجل نموذج للاستعمار ونهب الثروات؟ هذا هو مطلب شعب بورسعيد أن نحافظ على احترامنا لتاريخنا وتراثنا وشهدائنا الذين ضحوا فى سبيل تحرير الوطن من الاستعمار، وأن يوم 23 ديسمبر سنة 1956 لا يستطيع أحد أن ينساه من أهالى المدينة الباسلة. ومازال هناك من اشترك فى المقاومة يعيش فى بورسعيد شاهدا ومضحيا ومتذكرا ما حدث للمدينة فى عام 1956.
نرجو من المسؤلين أن يحافظوا على هذه القيم التى يفتخر بها شعب بورسعيد البطل الذى يشيد بها العالم كله، أذهبوا إلى المتحف الحربى فى لندن وشاهدوا ما يقوله الإنجليز عن حرب 56 فى بورسعيد البطلة وشهدائها. لن ننسى ما حيينا كل من ضحى فى سبيل التحرر والكرامة الإنسانية والعزة الوطنية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved