جدلية السلطة والمعارضة فى بلاد العرب

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الجمعة 14 أغسطس 2015 - 10:10 ص بتوقيت القاهرة

لا توجد سلطة فى أى مجتمع فى العالم لا تتضايق من وجود معارضة لها، تنتقد نشاطاتها، وتعرض على المواطنين أفكارا وبرامج بديلة عن تلك التى تتبناها السلطة، بل وأحيانا تسعى لإزاحتها والحلول مكانها.

وفى الواقع فإن السلطة لا تفرق فى توجُسها بين معارضة ومعارضة، إذ إنها تشعر فى أعماقها بأن كل معارضة، مهما صغرت، تحمل إمكانية الاتساع والتقوى والنجاح فى المستقبل، أى تحمل إمكانية اختزان أخطار لم يحسب لها أحد حسابا.

إذن، تلك ظاهرة اجتماعية وسياسية عرفتها البشرية عبر تاريخها وتعرفها فى حاضرها. لكن هناك اختلافا جوهريا بين المجتمعات يتمثل فى منهجية وأسلوب تعامل السلطة مع معارضيها.

ففى بلاد العرب لا تكتفى السلطة بأن تكون مثل الآخرين فى القبول على مضض بتواجد معارضة.

إنها تريد شيئا آخر يجعلها شاذة عن المنطق والأعراف فى التعامل مع هذا الموضوع المعقد.

إنها تريدها أولا معارضة مظهرية فى جلباب هى، أى السلطة، تضع مقاساته إن لم تقم بخياطته.

وينتهى الأمر بوجود معارضة مطأطأة الرأس، محنية الظهر، تدرك فى كل كلمة تنطقها وفى كل فعل تقوم به بأن العين لا تعلو على الحاجب وبأن صورة وهيبة السلطة خطان أحمران مقدسان لا يحق لأحد تجاوزهما.

إنها تريدها ثانيا معارضة شبه موالية للسلطة، لا تختلف عن موالى السلطة الحقيقيين إلا فى ادعائها أمام الناس وفى تسميتها الرسمية بأنها معارضة. وتستطيع المعارضة أن تفاخر بأن ولاءها هو للوطن، ولا غير الوطن، طالما أنها تدرك فى قرارة نفسها أن السلطة هى الوطن والوطن هو السلطة.

مطلوب من المعارضة أن تتصرف كعضو فى أسرة تحكمها العلاقات البطركية، حيث من الممكن للابن أن يكون مشاغبا ولكنه لا يجرؤ أن يمس مكانة وهيمنة وتبجيل رب الأسرة.

كما فى العائلة العربية يجب أن تكون ساحة السياسة العربية. من هنا إصرار بعض رؤساء الدول بين الحين والآخر على إسباغ لقب رب الأسرة على أنفسهم ومخاطبة مواطنيهم كمخاطبتهم لأبنائهم القصر المحتاجين للرعاية والعطف، وأحيانا التربية.

ولقد ساهم فقهاء السلاطين عبر القرون الطويلة فى ترسيخ صورة وضرورة هذه العلاقة الأبوية، غير الندية وغير المتوازنة، بين السلطة والمجتمعات التى تديرها. فولى الأمر يجب أن يطاع لتجنُب الفتن والمنازعات فى داخل أسر المجتمعات، وحتى إذا مارس الولاية من خلال ارتكاب الأخطاء المضرة للغير فيجب أن ينصح برفق واحترام شديدين يليقان بمكانته وسلطته وصورته المجتمعية وكونه راعيا لرعيته.

•••

ما الذى يبقى من فكر وممارسة السياسة فى هكذا مجتمعات، وتحت هكذا ثقافة، وبشروط هكذا علاقات؟ يبقى شبح اللعبة السياسية القائمة على علاقات زبونية نفعية ذليلة تهمش قوى المجتمعات المدنية جميعها، وعلى الأخص قواها السياسية والنقابية والإعلامية.

ترى، أين تكمن أسباب وجود تلك الظواهر المريضة فى علاقة السلطة بالمعارضة فى الحياة السياسية العربية؟ إنها فى الأساس تكمن فى تعامل الأدب السياسى العربى، عبر قرون طويلة، مع مفهوم سلطة الدولة. فسلطة الدولة العربية، أيا تكون تسمية تلك الدولة، خلافة أو جمهورية أو إمارة أو مملكة أو سلطنة أو غيرها، تعتبر سلطة مستقلة بذاتها، متعالية ومنفصلة عن مجتمعاتها، محتكرة لكل الوسائل الضابطة لنشاطات ساكنى تلك المجتمعات، وبالتالى فإنها غير قابلة للمساءلة الجدية، وإنما تقدم لها النصيحة ويتمُ التعامل معها بالصبر والرجاء.

إن ذلك الفهم لطبيعة سلطة الدولة، وهو الفهم الذى ميز مسيرة الدولة العربية والإسلامية عبر تاريخ طويل، والذى أعطاها الحق بالتعامل مع أية معارضة بقوة البطش، ذلك الفهم لا يزال موجودا فى الحياة العربية السياسية، وإن بنسب متفاوتة وأشكال مختلفة.

ذلك الفهم يتعارض بصورة كاملة مع وجود معارضة مستقلة واقفة على قدميها ونديُة، لأنه لا يسمح بالمشاركة المجتمعية الفاعلة المؤثرة فى برامج وقرارات وممارسات سلطة الدولة العربية.

والنتيجة هو إما سحق المعارضة أو تدجينها أو اختراقها أو تشويه صورتها ومقاصدها. والضحية فى النهاية هو السلم الأهلى والمجتمعى، والضحية أيضا، وهذا أمر خطير للغاية، هى إمكانية حدوث النضج والسمو والكفاءة والإبداع فى منظومة الحياة السياسية العربية.

وهذا كله سيعيق الانتقال إلى نظام ديمقراطى معقول وعادل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved