أثرياء القاهرة وعمارة القرن العشرين

وائل زكى
وائل زكى

آخر تحديث: الجمعة 14 أغسطس 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

لم يكن امتلاك العقار السكنى حتى إنشاء القاهرة الاسماعيلية المعروفة بالقاهرة الخديوية فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلا لغرض السكن الشخصى أو جزء منه لاستئجار من لم يمتلك بيتا، وكان المستأجر بمثابة من نزل فى كنف ورعاية مالك العقار، وسواء كان البيت له رقم وعنوان فمعروف أن فلانا يسكن فى بيت فلان، كان أثرياء القوم يسكنون فى الحلقة الخارجية للمدينة مثل شبرا والعباسية ونواحى القبة والأميرية ثم غربا فى جزيرتى الزمالك شمالا والروضة ونواحى قصر العينى جنوبا واختراقات فى الدقى غربا، ولم يكن منهم فى الوسط سوى الحلمية ونواحيها، كما ظهر حراك عمرانى أخذ فى الازدياد والنمو من الطبقة المتوسطة العليا جهة شبرا شمالا والعباسية شرقا، وحين فتحت الحكومة باب العمران فى حى الاسماعيلية بتخطيطه وتنظيمه وضعت شروطا لتعميره ربما كانت غير مسبوقة فى مصر ومنحت بعض الامتيازات لمن يبنى فى الحى، فلا تجد فيه قصرا أو فيلا بالمفهوم الحالى بل عمارات متعددة الوحدات السكنية والأغراض التجارية والإدارية، ومن ثم أصبح البناء فيه لا يمكن قصره على السكن الشخصى وإنما تدخل فيه حسابات تكلفة البناء وتقديرات العائد من البيع والإيجار وتقدير دورة رأس المال وما صار يعرف بالاستثمار العقارى فى مفهومنا الحالى.

احتل حى الاسماعيلية حوالى 700 فدان ما بين العتبة شرقا والنيل غربا ضم ما يربو بقليل عن الأربعمائة عمارة، أنشأه الخديوى اسماعيل واستحضر لتخطيطه جورج هوسمان الذى خطط باريس الحالية، الأول تم عزله لفداحة الديون فى عهده والثانى أقيل من منصبه فى فرنسا لفداحة تكاليف مشروعه الباريسى، ومع ذلك بقيت باريس أوروبا والقاهرة باريس الشرق مضربا لحداثة العمران وجمال العمارة، غير تعمير الحى وهو المعروف حاليا بوسط البلد بالقاهرة احتاج عدة عقود من الزمن لتكتمل هيئته ويأهل بالسكان، فقد تم تخصيص قطعه البنائية لمن تقدم بطلب تخصيص طبقا للاشتراطات العمرانية والبنائية والتأكد من قدرته المالية، لذلك قدم على تعمير الحى فئة جديدة من المستثمرين اتجهوا لهذا الاستثمار فى البناء والبيع والإيجار العقارى وأتوا بمشاهير المعماريين الأوروبيين الذين تباروا فى إبراز فنونهم المعمارية، ويخرج الحى ليوثق العديد من الطرز المعمارية وليدة ثقافات متنوعة فى تناغم بنكهة مصرية، فمن النسج العمرانى إلى المزج المعمارى ما بين تفصيلة ذات دلالة إلى توليفة تفصح عن ثراء وتعدد المذاهب والمدارس المعمارية فى تلك العقود الأولى من القرن العشرين وحتى قبيل الحرب العالمية الثانية، فكان الحى له صبغة أفرنجية أقبل على سكنه الأجانب وكثير من حديثى الثراء من المصريين وكل راغب فى عيش مختلف حديث.
***
انتهى القرن التاسع عشر بأثرياء مصر الارستقراطيين وقد ضاق الخناق عليهم فى مناطق سكناهم كما لم يجتذب الحى الاسماعيلى معظمهم للسكنى فيه، فلم تناسبهم المجمعات السكنية الرأسية على شكل عمارات ضخمة تعج بالشقق السكنية على الرغم من أن بعضا منهم استثمر فى وسط البلد بعمارة أو أكثر، بالطبع معظمهم كان يتطلع لمسايرة العصر ولكن بمنظور آخر، ففى الوقت الذى كانت العربات المجرورة بالجياد هى أروع ما يمتلكه الثرى لانتقالاته، لم يأت عام 1905 إلا وأصبح يسير فى شوارع المحروسة ما لا يقل عن مائة سيارة لا تستطيع دخول الكثير من شوارع أحيائها القديمة، وتحسبا لتحقيق أمنية امتلاك سيارة والسكنى بعيدا عن كثرة الغرباء وضوضاء المدينة الحديثة صارت التطلعات تحتاج لأفكار تخطيطية تتلاءم مع احتياجات تلك الطبقة، عيش الرفاهة مع إحساس بالأمان وبعيدا عن المزاحمة والضوضاء مع ضمان سهولة التنقل والوصول وتوفر الخدمات، وعليه بدأ القرن العشرين بمصر الجديدة عام 1905م، ثم المعادى وحدائق القبة عام 1908م، مع تباطؤ فى عمران المعادى إلى أن أنشئت فيها الخدمات الترفيهية والفيلات من بعد عام 1920م لتبدأ انطلاقة نحو تعميرها بالأثرياء والجاليات الأجنبية ممن لم ترق لهم معيشة وسط البلد.

كان عمران مصر الجديدة سريعا وكانت بحق تمثل فكرا جديدا فى الامتداد العمرانى كضاحية سكنية شملت تنوعا طبقيا ضمن تكامل الوظائف والخدمات، وساعد على الإقبال على سكناها من جميع الطبقات ربطها بخط مترو سهل انتقال السكان بين مقار العمل والسكن بالقاهرة ومصر الجديدة والعكس، قامت مصر الجديدة على رؤية عمرانية وفكر عمرانى حديث قافز إلى خارج القاهرة وليس امتدادا زاحفا للعمران القائم بسعى وفكر شخص ومجموعة عمل معتمدة على الاستثمار العقارى الخاص بدون مساعدة من الدولة، والواقع أن البارون إمبان صاحب رؤية واحة هليوبوليس ومؤسس مصر الجديدة كان على رأس مجموعة متحمسة للفكرة وأصحاب خبرات واسعة فى المجال العقارى، ومنهم سكرتير أعماله الثرى حنا صباغ بك الذى شيد مبنى لافيينواز La Viennoise بوسط البلد وأحد من ساهموا فى تشييد كاتدرائية القيامة للروم الكاثوليك بالفجالة والتى أسهم فى بنائها أيضا الكونت حبيب باشا السكاكينى صاحب القصر المميز وعائلة صيدناوى وكلهم لهم مبانٍ مسجلة ضمن روائع فنون التشييد والعمارة، وصاروا أصحاب ولع باستقدام كل ماهر وحاذق فى فنون البناء لتزخر القاهرة بامتداداتها بفنون معمارية لم تشهد نهضتها سوى ما تبارى فيه مماليك مصر المحروسة.
***
أضاف الخديوى عباس حلمى الثانى امتدادا مخططا للقاهرة الاسماعيلية بتأسيسه حى جاردن سيتى عام 1906م بفكر المدرسة التخطيطية الحديثة التى اتجهت للمدن الحدائقية، وفر الحى بتخطيط شوارعه المنحنية خصوصية سكنية وأضفى وقارا وهدوءا ليجد كثير من صفوة مجتمع الأثرياء ملاذا لسكناهم بالقرب من الحى الاسماعيلى ذى التخطيط الباريسى الحديث والتمتع بموقع متميز على نيل القاهرة، ولوحظ أنه صارت ظاهرة أن يسكن كثير من الطبقة الغنية الضواحى فى المعادى ومصر الجديدة ويستأجرون شقة سكنية فى إحدى عمائر وسط البلد أو جاردن سيتى، ربما للاقتراب من مواقع عملهم وكانت للاستخدام الشخصى وليس للاستثمار العقارى، ويظل عمران القاهرة فترة حتى نهاية خمسينيات القرن العشرين فى ذات حدوده التى بدأ بها القرن غير أن حراكا داخليا مستمرا لتوطيد معالم مناطق سكن الأثرياء مع ازدياد الكثافة فى كل الأرجاء، وتحولت إلى كيان عمرانى ممتد يحوى واحدة من أرقى مدن العالم هى القاهرة الخديوية، ويضم حولها كيانات حضارية وتراثية قلما تتجاور بل وتحتضن موتاها جهة الشرق، لترمز لجميع معانى الحياة الإنسانية ودورة حياتها.
نلحظ أن الأثرياء هم من بادروا بتعمير مصر الجديدة أسرع من غيرها وكانوا أكثر ثقة فى تهيئة سبل المعيشة حتى تركوا مناطقهم القديمة لإحلال غيرهم من الطبقات، وكان لهم اليد الطولى فى الحفاظ على التراث المعمارى لقاهرة مصر المحروسة وأضفوا على امتداداتها وقفزاتها العمرانية بالضواحى طرزا فريدة أفرزها طابع معمارى مصرى امتزجت فيه ثقافات القرن العشرين، وبينما صارت أوروبا أطلالا بعد الحرب العالمية الثانية، أخذت القاهرة تستقبل مريديها من شتى البقاع ليتكسبوا أرزاقهم فيها، وقد نجح بشكل ملحوظ إلى جانب المصريين رجال الأعمال الشوام فى استثمار عقارات وسط البلد وجاردن سيتى ومصر الجديدة وظلت تلك المناطق تزداد كثافة إلى جانب الزمالك والروضة وامتدادات بالجيزة نواحى الدقى وشارع الهرم، حتى دخل أثرياء العقار مع نهاية الخمسينيات ومناطقهم فى فترة جمود مع بدء تأميم الأملاك العقارية لينتهى قرن من الزمان كان الأثرياء فيه هم قاطرة التنمية العمرانية والمعمارية وكان التوجيه تارة بيد الدولة وتارة بيد القطاع الخاص، ليبدأ عهد الطبقة الوسطى فى المد العمرانى شرقا وغربا يليهم عهد الطبقة الدنيا بعشوائياتها، كان لابد بعدهما من عودة عقارية للأثرياء تفاوتت بين ثلاث أشكال هى الحاجة إلى السكن الملائم أو اتخاذ العقار وسيلة ادخار أو الاستثمار العقارى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved