نيويورك .. نيويورك

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 14 سبتمبر 2011 - 11:15 ص بتوقيت القاهرة

شاهدت، مثل ملايين البشر فى جميع أنحاء العالم، برجى مبنى التجارة العالمية ينهاران، ولم أدرك وقتها، مثل عديد المشاهدين، أن هذه التفجيرات سوف تمسنى كفرد عادى. وأنها ستغير نمط حركتى داخل وخارج مصر وممارسات كانت قد استقرت طباعا شخصية.

●●●

أحلى ما فى السفر بالنسبة لى التجوال منفردا داخل المدن والقرى وبين بعضها البعض. لا أتصرف كسائح أو غريب. أتناول الطعام بين رواد المطاعم كواحد من الزبائن المعتادين، وأسير فى الطرقات بدون خريطة مفتوحة بين يدى، إن وجب السؤال للاستدلال أسأل كما يسأل أى سائل من أهل المكان عن عنوان، وإن قررت زيارة صرح بقى شاهدا على حضارة نشأت واستقرت أو مرت مرورا، سلكت سلوك الباحثين والتاريخيين، وإن احتاج الأمر للمزيد اقتربت من رحلة مدرسية أستمع إلى شرح مدرسة التاريخ والآثار المرافقة للرحلة.

تفاديت، فى معظم الرحلات، الانضمام إلى جماعات السياح من جنسيات متعددة الذين تمر حافلة الشركة على فنادقهم فى الصباح لتجمعهم وتعيدهم فى المساء، أو تمر عليهم فى المساء وتعيدهم إلى فنادقهم مع انبلاج الفجر. كنت أعرف أننى فى الرحلة الجماعية سوف أفقد كثيرا من فرص الاستمتاع بالوحدة والاختلاء بالنفس وتوليد الأفكار وتنميتها والسرحان فى الخيال. جربت أحيانا التجول فى المناطق الأثرية متسللا بين التلاميذ عل أحدهم يسأل سؤالا مثيرا عن أجداده وإنجازاتهم. أسمع الإجابة وأعود فأتسكع منفردا. اكتشفت أكثر من مرة أن وجودى ضمن جماعة فى موقع هواؤه تاريخ وأحجاره تاريخ وللزهرة التى شقت الصخر تاريخ متحدية فى زهو شهوة اللمس عندى وعند غيرى من المتطفلين، يجعل من الصعب أن أخلو إلى نفسى. لن تسنح الفرصة وأنا بين الناس لأتخيل صوت سنابك خيل الفرسان تدق على هذه الأرض الصلبة فى عودتها من الحرب، وهناك فى آخر الساحة أراهم يمرون تحت قوس النصر وحولهم الجماهير تحمل أكاليل الغار لتتوجهم بها.

●●●

وقعت الواقعة فى سبتمبر 2001. ومنذ ذلك الحين أعيش مفتقدا هذه الهواية الجميلة، هواية الاختلاء بالنفس وتفعيل الخيال. أشعر، وأعرف أن كثيرين يشعرون بشعور مماثل، أننا لن نعود أبدا إلى الاستمتاع بحقنا فى أن نخلو إلى ذواتنا. أنا الآن وفى لحظة كتابة هذه السطور «لست وحدى» ولن أكون وحدى فى أى لحظة أخرى. قضى قضاء مبرما على حق الإنسان أن يحيا حياة خاصة، حياة فيها أسرار ومغامرات وأخطاء وتجاوزات لا يريد أن يشاركه أحد فيها. قضى على هذا الحق الذى لا يجادل أحد فى أنه كان ذات يوم حقا طبيعيا من حقوق البشر.

●●●

كانت إحدى أهم نتائج تفجيرات نيويورك، تلك القفزة الهائلة التى قفزتها الأجهزة المتخصصة فى ممارسة الجاسوسية، فى أمريكا بداية ثم فى دول العالم كافة. كان بعض هذه الأجهزة، ورغم عراقته فى غالب البلدان والثقافات، قانعا ومتواضعا فى احتياجاته وأهدافه. اكتفى بأن يركز على عدد محدود من الأفراد هم محل اشتباه أو اهتمام، أشخاص لهم مكانة فى مجتمعاتهم أو يشكلون خطرا على الأمن أو يملكون أسرارا فى العالم والمعرفة والاستراتيجية. أما أن يكون الهدف، كل الناس، فهذا الحد من الجشع لم تصل إليه منظومة الجاسوسية العالمية إلا بعد فاجعة نيويورك.

فى أيامنا هذه إذا خرج الفرد منا إلى الصحراء الشاسعة لينفرد بنفسه، سيكتشف أن معلومات عنه قد سبقته إلى حيث قرر نصب خيمته وإلى أكثر من جهاز جاسوسية محلى وأجنبى. هذه المعلومات عنه وعن رحلته وما يحمله معه بدأت تتجمع فى اللحظة التى هاتف فيها شركة الطيران التى ستنقله إلى أقرب مطار ومن بطاقة سفره الإلكترونية التى تحتوى على معلومات أكثر كثيرا من تلك المسجلة عليها، أضيفت إليها معلومات من محل بيع الخيام الذى اشترى خيمته منه، ومن إيصال تسديد قيمتها الذى يحتوى على معلومات أكثر من مجرد رقم بطاقة الائتمان التى يستخدمها لتسديد مشترياته، ومعلومات من مكتب تأجير السيارات والمكلف من أجهزة الأمن بتسجيل كل مواصفات وصفات مستأجرى السيارات، بالإضافة إلى سيل المعلومات المتدفقة بلا انقطاع وبدون استئذان من الهاتف المحمول، هذا المرافق الملتصق دائما وأبدا بالإنسان المعاصر، لا يتخلى عنه أو يبتعد، ولا يسمح لصاحبه بخلوة لا يكون طرفا ثالثا فيها.

●●●

كان هذا بعضا يسيرا مما أصابنا على المستوى الشخصى نتيجة تفجيرات نيويورك. المفارقة المثيرة هى أننا انشغلنا فى بلادنا بثورة أحد أهم أهدافها استعادة ما فقدناه من حقوق وحريات سياسية ونسينا ، أو لعلنا نتغافل متعمدين، المطالبة باستعادة حق كل فرد فى صون خصوصياته وحريته الشخصية وحماية تنقلاته واتصالاته من عدوان البصاصين والإلكترونيات. يجب علينا، وأقصد من تبقى فى ساحة الثورة من ثوار، توجيه نداء إلى المتضررين فى جميع أنحاء العالم من أمريكا غربا إلى الصين شرقا الاتحاد للتخلص من القيود والقوانين المقيدة للحرية الشخصية. ندعوهم لثورة أخرى هدفها إزالة آثار كارثة 11 سبتمبر، وبخاصة العدوان الصارخ على خصوصياتنا ودخائلنا بحجة حمايتنا من الإرهاب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved