صيف التراب والموت

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الإثنين 14 سبتمبر 2015 - 5:50 ص بتوقيت القاهرة

أوشك الصيف على الانتهاء رغم أنه عند بَعضنَا يطول ثم يطول.. كلما تصورت أن البغيض سينجلى تبقى مؤشرات درجات الحرارة مرتفعة وكأن الكون صب جام غضبه ها هنا فقط.. هذا صيف ساخن آخر كثر فيه الترحال من بلداننا كلهم باتجاه أوروبا. رغم اختلاف الأسباب وتنوع أنماط السفر.. فيما سافر العديدون بحثا عن شىء من الحرية والراحة وليس فقط الابتعاد عن درجات حرارة تبدو أقرب لجهنم منها إلى الحياة على الأرض، رحل آخرون على قوارب مطاطية بحثا عن الحرية أيضا ولكنها الحرية من الموت تحت القصف والحرية من الخوف القادم بتسميات مختلفة.. استقبلت كثيرا من المدن الأوروبية الأقرب النموذجين من العرب حتى سقط الكثيرون فى بحر من الأسئلة والاستفسارات بحثا عن من يمنحهم تفسير لكل هذه المتناقضات وكأننا فى هذه الدول لا نعيش سوى الشىء ونقيضه يتجاوران حتى استكان هذا جنوب ذاك.

***
فمثلا استقبلت نفس الجزر اليونانية النموذجين حيث كانت وجهة لمن يريد أن يبتعد كثيرا عن سرعة الحياة اليومية إلى الاستحمام فى الشمس والاستلقاء لساعات فى حضن البحر اللازوردى. انتهى كثير من القادمين من مدن الموت فى نفس تلك الجزر.. افترشوا الأرض والتحفوا بالسماء انتظارا للمرحلة القادمة من الرحلة الطويلة التى تحولت إلى ليل طويل بسماء دون نجوم أو قمر..

جلس العرب والعرب بنفس تلك الجزر بعضهم فى فنادق وآخرون يفترشون الأرصفة لا ذنب للاثنين حتما فيما هم فيه وعليه بل ربما ببعض المفاهيم يبدو الفريقين ضحايا لأمر ما!!! فقد تنوعت صور البحث عن الحرية حتى تقاطعت لدرجة تبعث على الحزن. يقول ذاك الصديق لقد حجزت فى أحد الفنادق الفاخرة بجزيرة كويس اليونانية قبل أشهر طويلة والآن أجدنى أقرب إلى وجعى الدائم الذى كنت أحاول أن أبتعد عنه لبعض الوقت فقط.. كنت أبحث بعض الراحة بعيدا عن أخبار الجحيم العربى، انتهى بى أن أجاور هذا الجحيم القادم فى صورة كثير من الألم والعصابات على وجوه نساء ورجال وأطفال بل عائلات بأكملها تبحث عن مساحة خطوة من الموت والتشرد والعجز والذل والاهانة وقلة الحيلة.. ينتاب البعض شىء من الشعور بالذنب الأمر الذى لا نجده عند بعض المسئولين أو كلهم أولئك الذين انهمكوا فى صياغة البيانات والنوم فوقها وتكرار المبررات بدلا من البحث عن حلول كما فعلت العديد من الدول البعيدة جدا..

***
يرحل لصرف، ولايزال البعض متعلقا بالأمل، أحدهم أن يلتقط نفس حرية أخيرا بعيدا عن أوطان مكبلة بقيود العادات والتقاليد وبعض من التفسيرات الدينية وانتشار مظاهر دين بعيدا عن سكينة الله فى القلوب. وعلى الضفة الأخرى من دولنا يقف مواطنون آخرون، بشر اقتنصهم من استغل خوفهم وعجزهم وقلة حيلتهم وسرق منهم قوت عيالهم من أجل الاستقرار فى دفء الأمان الذى لم تعد توفره الأوطان...

لا تجد نفسك إلا مجبرا على السؤال العبثى ما هذه الأوطان الباردة، ما هذه الاوطان التى قتلت كل ما تبقى من الفرح المخزن فى بعض ذكريات أو تراث.. ما هذه الأوطان التى استباحها الظلام حتى تحولت إلى متناقضات فى كل شىء وبشكل مرض حتما.. فالخوف أو شىء منه هو الدافع للهجرة الصيفية إما الخوف من رقابة العادات والتقاليد بعضها بالٍ وآخرها مستحدث أو خوف من الموت وفى كلتا الحالتين يبقى الاثنان ضحايا يبحثون عما يفترض أن يوفره الوطن...

لا نتصور للحظة أن اللجوء ظاهرة عربية، كما هى السياحة الصيفية أيضا، ولكن يبدو أن كثيرا من العرب قد أضاف معانى جديدة لهذه المفردات.. ومع كل ذلك لم نسمع مسئولا لدينا يتحدث عن فداحة المشهد أو أنه يعرب عن قلقه من أزمة ما.. كلهم يختبئون خلف مبررات أتقن بعض حملة الأختام من «الخياطين» الكسالى فى صياغات ترقيعية أو ربما هم لا يريدون فتح الجرح لأن به كثيرا من الوجع.

لا يتساوى الاثنان حتما، أى الهارب من الصيف وطقوسه بذاك الهارب خوفا من أن تقتنص ابنه قذيفة.. لا يستوى الاثنان أبدا ولا يتساويان فالألم أبعد وأكثر.. انظروا لوجوه الأطفال التى ارتسم عليها الذعر وهى تقفز من مركب متهالك إلى اليابسة التى طال انتظارها.. انظروا لوجوه النساء تلك التى حضنت أطفالها لساعات وساعات حتى وصلت رجلها إلى الارض بعيدا عن بحر ابتلع كثيرا من الأهل والاصدقاء والجيران.. تلك النساء والرجال والأطفال الذين رحلوا لمدن لم يكونوا قد درسوها فى كتب الجغرافيا بقريتهم وبلدات لم يسمعوا بها قبل ان يقوموا بدراسة خرائط لمعرفة أفضل الطرق وأقصرها للأسف نتقابل حتى الوصول إلى ألمانيا فيما رفض البقاء فى الدول الأخرى وذلك بعد بحث مستفيض لمكان يوفر فرصة لحياته الثانية.. فهؤلاء جميعا قد كتبت لهم حياة أخرى، حياة ما بعد البحر والموت الاول، فيما آخرون يعبرون المسافات بحثا عن النوم على شاطئ لا تتسلط عليه أعين الرقيب المتنوعة، بحثا عن استرخاء بددته جثث أو صور لجثث لرفضها البحر لتتلقفها الشواطئ ونفس ذاك التراب ونفس الشمس الدافئة ونفس البحر اللازوردى الذى يعد هو وسيلة بعض الدول لجذب مزيد من القادمين.. ذاك البحر الذى تزين صوره مكاتب السفر والسياحة.

***
كل هذه المتناقضات لا يجمع بينها سوى البحر وزرقة السماء وجزر ومدن صغيرة تعرف كيف تعيش وتعلم الحياة للقادمين الجدد على تنويعاتهم...

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved