فرمانات الملكة الأم

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2019 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

تسن قوانين اللعبة، وهي رابضة في كرسيها. تلك هي بطلة مسرحية "ماما" لأحمد العطار، التي تعرض مساء اليوم على مسرح الفلكي، ثم في الفترة من 20 إلى 23 سبتمبر، بعد أن تجولت في عدة مدن أوروبية، واشتركت في مهرجان آفينيون بفرنسا الذي ساهم في الإنتاج، وهي أول سابقة من نوعها بالنسبة لمسرحية مصرية.

منحة البطراوي تلعب دور الأم التي تتحكم بكل شيء. بملابس حريرية محتشمة، وحجاب يظهر منبت الشعر وبعض خصلاته الأمامية، تتكئ على عصاها، وتنازع زوجة ابنها- الممثلة السورية المقيمة بالقاهرة ناندا محمد- على الزعامة والسيطرة على شباب العيلة سواء الابن أو الحفيد. تغدقان عليهما الحب والهدايا.. تبتزاهما عاطفيا، إذا لزم الأمر، المهم في النهاية أن تستحوذا على قلبيهما، وتحكمان من خلالهما. لعبة الملكة- الأم التقليدية في كل زمان ومكان، التي مازالت سائدة في المجتمعات الشرقية، فهذه النوعية من الأمهات هن مفرخة الذكورية في بلادهن.

***
مجددا تفاجأنا منحة البطراوي بأداء شخصية امرأة بورجوازية في حوالي السبعين، بكثير من الحضور الواعي وخفة الدم، مثلما فعلت قبل عامين حين فازت بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان دبي، عن دورها في فيلم "زهرة الصبار" لهالة القوصي. تهتم بتفاصيل الشكل والمضمون، فتشعر أنك تعرف من يشبهها في محيطك. وبالطبع ساعدها نص المخرج أحمد العطار الذي يتحدث دوما عن هذه الطبقة تحديدا بمشاكلها وتناقضاتها ويسخر كثيرا من تصنعها واهتمامها بالمظاهر. من طريقة كلام الأم نلمح اهتماما زائفا بالفقراء، يتخلله عبارات وإشارات دينية مقحمة تثير الضحكات.

أحمد العطار يواصل تناوله لموضوع العائلة المصرية وعلاقاتها المركبة وموازين القوى داخلها، بعد مسرحيتين سابقتين: "الحياة حلوة أو في انتظار عمي اللي جاي من أمريكا" (2000) و"العشاء الأخير" (2014)، لكن هذه المرة تحصد الأم نصيب الأسد، دون أن تظل محبوسة في صورة القديسة المضحية. هي تناور وتثابر وتضطهد بنات جنسها وتفضل عليهن الذكور وتعيد فرز قواعد راسخة، تحافظ عليها من جيل إلى جيل.

***
منحة البطراوي تطعم أداءها بخبث طفولي، خبث بروح البراءة. علاقة الصداقة بينها وبين أحمد العطار أضفت ألفة وتواطئ على الشخصية، كأنهما يضحكان في سريهما حول الأشياء نفسها ويريدان أن نشاركهما الضحك حين نرى ما نفعل في مرآة مقعرة. يضخمان الملامح والتفاصيل لتصير الصورة كاريكاتورية، ونضحك لتأثير بعض الأمهات السلبي على تركيبة المجتمع، دون أن يقلل ذلك من شأنهن أو من حبهن. البعض فقط يحب بطريقة خاطئة أو غير صحية للجماعة البشرية، يعيد إفراز نماذج عانى منها هو شخصيا، وهي حالة الأم في المسرحية التي يقمعها الأب بوصفه زعيم القبيلة، فتناور لتحظى بسلطات من خلال علاقتها بالابن.

هي نموذج يكرس السائد ويرفض التغيير. تنتمي إلى طبقة تسعى للحفاظ على مصالحها ومكتسباتها، وتخاف الثورة بشكل عام. صمم حسين بيضون الديكور والسينوغرافيا مؤكدا على هذه المعاني. الثلاثة عشر ممثلا لا يخرجون عن إطار غرفة الصالون، إلا فيما ندر، هم يجلسون داخل قفص، وتحيط بالخشبة الدرامية شبكة حديدية محكمة لها طابع مودرن، لا نكاد نلحظها، إلا أنها موجودة. زوجة الابن تمازح صديقاتها بسطحية. والأم تمسك بطرف عصاها، وكأنها عصا موسى وسليمان معاً.

***
ملكة تمسك بالصولجان.. هذا ما جسدته منحة البطراوي بخفة دم وخبرة اكتسبتها من خلال رحلة طويلة مع المسرح بدأت منذ أكثر من نصف قرن، سواء من خلال النقد المسرحي الذي احترفته وبرعت فيه لسنوات، أو من خلال الإخراج والتمثيل والعديد من التجارب الطليعية. شخصية الأم، كما رسمها العطار، تطرح تساؤلات ومساحة للتفكير حول دور هذه السيدة التي تملك أن تبكينا أو تفرحنا بكلمة، والتي نبذل كل ما بوسعنا لإرضائها ونضعها في مرتبة الملائكة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved