خروج من المجموعة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 14 أكتوبر 2021 - 10:55 م بتوقيت القاهرة

في اللحظة التي ظهرت فيها عبارة "الدكتورة ن غادرت المجموعة" انقلب كياني. عادةً عندما ينسحب س أو ص من الناس من إحدى مجموعات الواتساب فإنه يثير لدّي الفضول لمعرفة سبب انسحابه، وإذا زاد فضولي أكثر ربما أطلبه للتوضيح وقد أبذل مجهودًا لإعادته للمجموعة، أما ما أثاره في نفسي انسحاب "الدكتورة ن" من مجموعة الكلية فكان هو شعور بالغصة. في الواقع فإن هذه الدكتورة كانت قد غادَرَت عالمنا قبل شهور طويلة، هي واحدة من قائمة كبيرة من الأصدقاء والمعارف الذين سقطوا ضحية كورونا، تطوَرَت حالتها بسرعة، ورغم أننا أحطناها بدعواتنا الصادقة إلا أننا صحونا في يوم شتوي بارد على عبارة: البقاء لله. عندما يختطف الموت واحدًا من محيطنا المباشر، تنتابنا مشاعر مرتبكة، منها الشعور بأننا جزء من لعبة روليت كبيرة ولا نعرف مَن الذي سوف تتوقف أمامه العجلة في المرة القادمة، فلعلها تتوقف أمامي أو أمامك أو أمام أي شخص آخر نعرفه. طالما صرنا جميعًا في محيط استهداف العجلة فلا يوجد ما يمنع من أن تتوقف أمامنا. هذا الشعور أزعجنا، وتسبب في جَعلِنا نحن أعضاء المجموعة نستريح إلى أن اسم زميلتنا ظل موجودًا بيننا، لا بل وحتى متفاعلًا معنا بشكل أعطانا الانطباع بأن "الدكتورة ن" لم تذهب إلى أي مكان.
•••
في كل المناسبات التي حلّ موعدها على مدار الشهور الفاصلة بين رحيل زميلتنا عن دنيانا وانسحابها من مجموعة الواتساب، كان هناك من يرّد عنها غيبتها ويتقمص شخصيتها ويشعرنا أنها مازالت بيننا. هذا الشخص كان يتبادل معنا التهاني بحلول شهر رمضان وأعياد الميلاد، ويبارك لمن حصل على درجة الماچستير أو عاد من بعثة لدراسة الدكتوراه في الخارج. كان يرسم قلبًا ورديًا على سبيل الاحتفاء بزميلة حديثة الارتباط، ويرسم قلبًا محاطًا بذراعين للاطمئنان على سلامة الدكتور فلان بعد حادثة كبيرة على الطريق الدائري. لم ننتبه إلى أن الشخص الذي يتفاعل معنا باسم "الدكتورة ن" ليس هي، لأن هذا الشخص كان يعرف في حقيقة الأمر كل شئ عما يدور داخل المجموعة، وكان له نفس الطبع المجامل الودود الذي كان لزميلتنا الراحلة. أقول لم ننتبه، لكن ربما كانت غفلتنا مقصودة فالحقائق ليست ممتعة دائمًا، والتغافل قد يكون المهرب من حقائق كثيرة وفي مقدمتها حقيقة الموت. وهكذا تعامَلنا مع من يتحدث باسم "الدكتورة ن" باعتباره وجهها الآخر، وفي كل مرة كانت تظهر لنا عبارة D.R-N is typing كنّا ننتظر بعادية شديدة ما سوف تكتبه ونعلّق عليه.
•••
إن الواقع ليس فقط هو كل ما نراه، فالواقع قد يكون من اختراعنا، ندّعي أننا نراه، ونتعاطى معه كأنه قائم، ونعتاد عليه وفي الأخير نصدّق إحساسنا بأنه حقيقي. البعض يطلق على هذا الواقع المفترَض العالم الموازي، وكل منّا له عالمه الموازي وأحيانًا حتى يكون له أكثر من عالَم موازٍ واحد. نحن نحب هذه العوالم الموازية ونساير مشاعرنا تجاهها ونقنع أنفسنا بأنها موجودة. نفعل ذلك لأن هذه العوالم تقدم لنا بدائل وخيارات أفضل مما يقدمه لنا الواقع، فنحن نرتبط من خلالها بعلاقات ومشاعر وذكريات كانت تُشبعنا في حينها ونتمنى أن تبقى وتستمر حتى لو اختفى أصحابها من أمام عيوننا. ونحن نحبها لأنها تسمح لنا بتصحيح أخطائنا بأثر رجعي مع أشخاص دخلوا حياتنا وخرجوا منها ولم نعاملهم بالود المتوقّع وربما نكون حتى قد خذلناهم في موقف أو آخر، وبالتالي فعندما نستدعي أطيافهم لتعيش معنا حياة ثانية فكأننا نحاول أن نستدرك معهم ما قد فاتنا. العوالِم الموازية لها ألف وظيفة، فالمَهرَب وظيفة، والإشباع وظيفة، والتعويض وظيفة، إنها كقطعة الصلصال التي نشكّلها لتناسب خيالنا وتكون على مقاس تصوراتنا للأشياء، وهي تترك نفس الانطباع بالارتياح.
•••
أما وقد خرجَت "الدكتورة ن" من مجموعتنا فلقد انتبهنا إلى أننا طيلة كل الشهور الماضية كنّا نتعامل مع الوهم، ولو كان الأمر بيدي لطلبت ممن كان له حق التوقيع باسم "الدكتورة ن" على ثرثرة المجموعة ألا يسحب توقيعه، ففي وجوده وَنَس وألفة وتعوّد. لكن أحدًا لا يعرف بالضبط من ذا الذي استمر في الحديث باسم زميلتنا منذ غابت. قد تكون ابنتها التي طالما حكت لنا عنها والتي كانت كنزها وجائزتها الكبرى والوحيدة التي منحتهَا اللقب الأجمل في العالم: أم. ربما كانت هي الابنة فعلًا وتكون قد قررت حين آل إليها تليفون أمها أن تعيش في جلبابها وتعيد بعثها وتخلق لنفسها عالمها الموازي تمامًا كما فعلنا نحن. تفسير معقول جدًا، لكن لماذا قررَت الابنة الآن أن تتوقف عن لعب هذا الدور؟ هل وصَلت إلى مرحلة التشبع ولم تعد قادرة على مواصلة الحياة بهذه الشخصية الجوزائية التي تجمع في جوفها بين روحين؟ هل شعرَت أنه ليس من حقها أن تستنسخ روح أمها هكذا دون استئذان؟ هل اكتشفَت أنها تساعد المجموعة في لعبة خداع النفس؟ طالما ظلت تفسيراتنا تدور في دائرة التكهنات ستبقى أسئلتنا معلّقة في الهواء، ومَن أدرانا بدايةً أن ابنتها هي المقصودة فلعله زوجها الذي ارتبطت به في الكلية وعاشت معه قصة حب طويلة عريضة، أو لعلها أختها الطبيبة التي كانت طوال فترة مرض زميلتنا هي همزة الوصل بيننا وبينها تنقل لنا أخبارها المتماوجَة كمثل البحر في فصل الخريف؟ أيًا كان ذلك الذي تقمَص شخصية زميلتنا، المهم أنه صار واحدًا من أعضاء هذه المجموعة، وصار غيابه يُقلِق ويفرِق ويُشعِر بالحنين.
•••
مرَت عدة أيام وتبادَل الزملاء الأمنيات الطيبة بصباحات ومساحات جميلة كالمعتاد، وأخذَت الجملة إياها التي تقول "الدكتورة ن غادرَت المجموعة" ترتفع لأعلى شيئًا فشيئًا حتى اختفت تمامًا عن ناظري، فلم أعد أدري هل اختفاؤها يؤكد حقيقة أن "الدكتورة ن" لم تعد جزءًا من المجموعة، أم أن اختفاءها يعني أن العبارة المؤلمة لم تُكتَب أصلًا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved