إسرائيل و«الأضرار الجانبية» والولايات المتحدة و«ضبط النفس»
نبيل فهمي
آخر تحديث:
الإثنين 14 أكتوبر 2024 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
«الأضرار الجانبية»، و«ضبط النفس»، عبارتان يستخدمان كثيرًا بين قادة الجيوش والمسئولين السياسيين فى حالات التوتر والاشتباك، لتبرير الممارسات والخسائر، لوضع حدا للأضرار والمخاطر، ومن أجل فتح الباب أمام حل المنازعات بالطرق السلمية والدبلوماسية فيما بعد، إلا أن أحداث الشرق الأوسط، وتصرفات ومواقف إسرائيل والولايات المتحدة خلال العام الماضى، أفرغت هذه العبارات من مضمونها كلية، وفتحت الباب على مصراعيه لخرق كل قواعد وقوانين الحرب، والتمهيد المنطقى للعمل السياسى الدبلوماسى، وأخلت تماما بمبدأ احترام سيادة الدول وحدودها.
تحظى إسرائيل بسجل ساطع وفريد فى الاغتيالات للسياسيين، وفى قتل المدنيين، وعلى وجه الخصوص الفلسطينيين والعرب، عبر حدودها ودون احترام لسيادة دول أخرى، ولا تكتفى سطور هذا المقال سرد الحالات المتعددة، أو وصف بشاعتها، والعنصر المشترك فى جميع هذه العمليات، هو تبرير إسرائيل للخسائر المرتبطة بها، بأن المستهدف إرهابى والخسائر الإنسانية بين المدنيين المصاحبة لها هى "أضرار جانبية"، حتى ما شهدناه فى صبرا وشاتيلا بلبنان عام ١٩٨٢ وقتل آلاف الفلسطينيين المدنيين، وخلال عام ٢٠٢٤ وقتل أكثر من أربعين ألف فلسطينى فى غزة خلال العام الماضى، علمًا بأن خبراء الحرب عادة يقيمون ملاءمة القيام باستهداف عناصر محددة آخذًا فى الاعتبار الخسائر الجانبية من المدنيين.
ومن جانبها أعتقد أن الولايات المتحدة هى أكثر الدول استخدامًا لعبارة الدعوة إلى «ضبط النفس»، ورغم أننى أحرص دائمًا على عدم المبالغة أو التسرع فى افتراض المؤامرات، فقد وصل بى الأمر الآن للاعتقاد أن غرضها فى استخدام هذه العبارة ليس منع انفلات الأمور وارتفاع الخسائر، بقدر ما هى دعوة والآلية لحماية إسرائيل، وإعطائها المزيد من الوقت والفرص لممارسة تجاوزاتها إزاء الفلسطينيين، وكذلك تجاه جيرانها فى كافة ساحات الشرق الأوسط، وأتذكر اتصالاتها المكثفة مع إيران عبر أطراف إقليمية وكذلك سويسرا للدعوة لضبط النفس بعد كل عملية إسرائيلية، مثل قذف القنصلية الإيرانية فى دمشق، واغتيال إسماعيل هنية فى العاصمة طهران.
وأكثر ما يؤكد ما ذكرته وما يجعلنى أستغرب حقًا سخافة الموقف الأمريكى وغياب المصداقية فيه، أن الولايات المتحدة كانت أكثر حماسًا ونشاطًا للدعوة إلى ضبط النفس مع الأطراف التى اعتدت عليها إسرائيل عن دعوتها وضغطها على الجانب الإسرائيلى، وهو البادئ بالاعتداء، حتى وصل الأمر أن وزير الخارجية الأمريكى بلينكن زار المنطقة أخيرًا دون التوقف فى إسرائيل، على عكس زياراته السابقة، وقيل إنه أمن على استهدافها سيارات المعونات والإغاثة، وتلى ذلك إلغاء أو تأجيل وزير الدفاع الأمريكى زيارته لإسرائيل، وكل ذلك يعنى أن الولايات المتحدة أما تطلق يد إسرائيل وعملياتها العسكرية، أو تشعر بأن إسرائيل لن تستجيب لتحذيراتها، وهذا يعنى أنها ضالعة فى العمليات الإسرائيلية كذلك، لأن مجرد وضع الولايات المتحدة حدًا على تسليح إسرائيل وتوفير الذخائر أو المعلومات الاستخبارية من الأقمار الصناعية يعجز إسرائيل من فتح كل هذه الجبهات فى آن واحد، فضلًا عن أن أفضل وسيلة لضبط النفس هى فى المقام الأول عدم تكرار الفعل ذاته، أى جعل إسرائيل توقف اعتداءاتها، وبطر سلسلة العنف والعنف المضاد من أساسها والانتقال إلى ممارسة عمل دبلوماسى جاد نحو حل النزاعات حتى لا تتكرر الأحداث.
وأشرت تحديدًا إلى تجاهل قضية «الأضرار الجانبية» بشكل متكرر، لخطورة تداعيات ما نتابعه الآن، والذى يجعل استهداف المدنيين أو تجاهل الخسائر المدنية كلية ممارسة متكررة ومقبولة ضمنيا، إذا ظل المعتدى دون محاسبة أو عقاب، ومن ثم سيتكرر ذلك بمعدلات متزايدة، ويلجأ إليها جميع الأطراف، ما يجعل جميع المدنيين مستهدفين والساحة المدنية ساحة قتال وتدمير.
كما حذرت من أن فقدان الدعوة «لضبط النفس» لمصداقيتها، بعد أن تاهت بصلتها واستخدمت للمناورة والخدعة، سيجعل الكثير من الأطراف الإقليمية غير المتصارعة تحد من جهودها الدبلوماسية الجادة، وتكتفى ببعض الإجراءات الشكلية، دون تحميل نفسها أعباء سياسية حقيقية، رغم أهمية ذلك فى تأمين تواصل ونجاح الجهود الدبلوماسية المهمة لتوفير الأمن والسلام.
وأحسب نفسى دائمًا ضمن مؤيدى السلام العربى الإسرائيلى الشامل، وفقًا لقرارى مجلس الأمن ٢٤٢ و٣٣٨، على أساس إنهاء احتلال إسرائيل للأراضى العربية وإقامة دولة فلسطينية وتحقيق الأمن والسلام لكل دول المنطقة بما فى ذلك إسرائيل، وأفضل العمل السياسى والدبلوماسى عن العمل العسكرى إلا فى حالة الضرورة، مع تأييدى لبلورة ترتيبات إقليمية للحد من مخاطر العسكرة والعنف.
وإنما ما نشهده الآن من شأنه أن يغير من طبيعة التوترات والصدامات كلية، حيث يترك لإسرائيل اللجام والتصرف باستهداف مواقع وأهداف عبر الشرق الأوسط ككل، تحت حماية سياسية أمريكية، تأمنها من المحاسبة حتى من التجاوزات العسكرية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتوفر رادع عسكرى تجاه ردود فعل من تعتدى عليه إسرائيل، والتى لا تبالى حتى شكليًا بمبدأ السيادة أو بالفصل بين التكنولوجيا والأهداف العسكرية والمدنية، وآخر ما تابعناه كان تفجير آلات المراسلة المحمولة «بيجر» مع أفراد وفى ساحات مدنية متنوعة.
وبرعونتها السياسية فقدت الولايات المتحدة القليل المتبقى من مصداقيتها السياسية فى المنطقة، رغم توافر أدوات عديدة للتأثير على الأحداث، ورغم دفاعه عن مسئولى بلاده نوه الصحفى الأمريكى توماس فريدمان فى مقاله الأخير أن منصب وزير الخارجية الأمريكى يحمل فى طياته أعباء تتجاوز رونقه لتعدد الأطراف المتصارعة فى مختلف القضايا الدولية، واتفق مع خلاصته فى انخفاض جاذبية المنصب، وإنما وجب التنوية والتصحيح من جانبى أن السبب الحقيقى لذلك ليس تعدد الأطراف وإنما الرعونة وازدواجية فى السياسات وتطبيق المعايير الأمريكية ما أفقدها فاعليتها.
• وتداعيات التجاوزات الخاصة باستخدام عبارتى «الأضرار الجانبية» و«ضبط النفس» تمتد وتنعكس على أمور كثيرة أخرى وأطراف متعددة، حيث ستجعل المدنيين كافة مستهدفين مباشرة ودائمًا، وليس مجرد جزء من معادلة «الأضرار الجانبية»، كما ستضعف أى دعوة صادقة للحد من التوتر وإلى تنشيط الجهود السياسية والدبلوماسية، حتى من قبل أطراف أخرى لها مصداقية دولية، وبما فى ذلك أطراف إقليمية لها سجل دبلوماسى نشط وعلاقات وثيقة بالفلسطينيين أو اتفاقات سلام مع إسرائيل، ويترتب على كل ذلك انتقالنا جميعًا من مرحلة توتر فى العلاقات وجهود للتوصل إلى حلول وسط، توفر الأمن والاستقرار للجميع وفقًا للقانون الدولى، وندخل إلى مرحلة حادة وصدامية يستهدف فيها الجميع وتباح فيها كل الساحات ويغيب عنها القانون الدولى والإنسانى، ويغلب عليها قانون الغابة وفوضويته، وهو ثمن غالٍ وجد خطير إقليميًا ودوليًا.