مشروع نتنياهو الشرق أوسطى
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 14 أكتوبر 2024 - 7:20 م
بتوقيت القاهرة
لا تكاد تبدأ حلقة جديدة فى مسلسل الصراع العربى - الإسرائيلى، الممتد والمعقد؛ إلا ويهرع القادة الإسرائيليون إلى استدعاء سرديات، استراتيجية ثيولوجية، حول «شرق أوسط جديد».
فمنذ نشأة الحركة الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر، انبرى منظروها فى اختلاق الذرائع التاريخية والأخلاقية، وافتراء المسوغات التوراتية والحضارية، التى يمكن أن تؤسس لإقامة وطن قومى لليهود على أرض فلسطين. وعقب كل حرب تخوضها إسرائيل ضد محيطها العربى منذ عام 1948 حتى اليوم، لتحويل الحلم إلى حقيقة، عبر فرض أمر واقع على الأرض، من خلال القوة الغاشمة؛ كان المفكرون اليهود والصهاينة يتبارون فى نسج السرديات، وبلورة الطروحات التنظيرية بشأن مستقبل المنطقة.
عقب توقيع اتفاقية «أوسلو» بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، أطل، شيمون بيريز، على العالم بمقاربته الفكرية، التى سطرها فى مؤلفه المعنون: «الشرق الأوسط الجديد». وقبل انقضاء العام ذاته، أصدر، نتنياهو، النسخة العبرية من كتابه المعنون: «مكان تحت الشمس»، الذى ظهرت طبعته الإنجليزية عام 1995، بعنوان: «مكان بين الأمم». ذلك الذى وصفه الصحفى الإسرائيلى، أنشيل بيبر، عام 2018، بأنه ثانى أهم كتاب عن تاريخ الحركة الصهيونية، بعد كتاب «دولة اليهود» لبنيامين زئيف هرتزل. ففى فصله العاشر والأخير، المعنون: «مسألة القوة اليهودية»، حاول، نتنياهو، التنظير لطروحاته المتعلقة، بمستقبل دور إسرائيل فى شرق أوسط جديد. وعلى إثر توقيع اتفاقيات «السلام الإبراهيمى» عام 2020، التى أسفرت عن تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية إضافية، متضمنة دعوة لتشكيل تحالف عربى - إسرائيلى، لاحتواء إيران؛ راج الحديث مجددًا عن «شرق أوسط جديد أفضل».
مؤخرًا، أشعل نجاح إسرائيل فى توجيه ضربة موجعة لإيران ووكلائها، جدلا حول نظام إقليمى جديد، يشمل قيام لبنان حر على أنقاض الحرب بين إسرائيل وحزب الله. وفى رسالة موجهة إلى الشعب الإيرانى، روج، نتنياهو، لفكرة تغيير نظام الملالى، وبشر بشرق أوسط جديد ينعم فيه الشعبان الفارسى واليهودى بعيش آمن. وخلال جلسة لتقويم الوضع الأمنى، عقدها بمقر قيادة سلاح الجو، قبيل أيام قلائل من اغتيال الأمين العام السابق للحزب، حسن نصرالله؛ أكد، نتنياهو، أن إسرائيل تعمل بمنهجية لتغيير موازين القوى، والواقع الاستراتيجى فى الشرق الأوسط برمته. وفى كلمة متلفزة له عقب عملية الاغتيال، قال: «إن القضاء على نصرالله، يمثل نقطة تحوُّل تاريخية، يمكن أن تغير ميزان القوى فى الشرق الأوسط، وتؤسس لواقع إقليمى جديد». وفى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضى، عرض نتنياهو، خريطة جديدة للشرق الأوسط، تبرز نيته إعادة تشكيل المنطقة، بما يتماشى مع المخططات الصهيونية. حيث صنفت الإقليم إلى فسطاطين؛ أولهما، كساه باللون الأخضر، وسماه «محور النعمة»، ويشمل إسرائيل ودول ما يسمى «محور الاعتدال». وقد ظهر على الخريطة بلون داكن يغطى كل مساحة فلسطين التاريخية، دونما إشارة للضفة الغربية، قطاع غزة وشرقى القدس. أما ثانيهما، فظهر أسود اللون، ويرمز لما سماه «محور اللعنة أو النقمة»، ويشمل مجموعة الدول، التى تشمل ما اصطلح على تسميته «محور المقاومة أو الممانعة»، كمثل إيران، العراق، سوريا، ولبنان.
بدوره، قال موشيه فوزييلوف، الذى واكب خطط التحضير لاغتيال، نصرالله، من خلال توليه مناصب رفيعة فى جهاز «الشاباك»: «إن اغتيال، نصرالله، يؤسس لفرض شروط جديدة على الساحة الإقليمية، وخلق «محور الخير» الجديد فى الشرق الأوسط. والذى يمكن لدول المنطقة أن تزدهر وتنمو فى ربوعه، بغير خوف من طموحات إيران النووية».
• • •
يفصح تبشير نتنياهو بـ«شرق أوسط جديد»، عن تصميم إسرائيلى على إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، وفقًا لقواعد ومعطيات تتناغم مع المآرب الصهيونية. وبما يشكل بديلًا عن تلك التى رسمتها القوى الاستعمارية الكبرى كمثل، بريطانيا وفرنسا، مطلع القرن العشرين. ويتسق هكذا توجه مع النظريات الإسرائيلية لجهة نشأة الدولة وتوسّعها، والتى تنطوى على بعدين. أولهما وجودى، يتعلّق بما يُسمّى «إسرائيل الكبرى» جغرافيًا. ويستهدف توسيع حدودها، لضمان بقائها. أمّا الآخر فيعبر عن «إسرائيل الكُبرى» افتراضيًا. من خلال امتلاكها ترسانة عسكرية جبارة، وفرض هيمنتها الكاملة، تكنولوجيا واقتصاديا، بما يضمن لها استدامة نفوذها فى محيطها.
يعكس إصرار نتنياهو، منذ الثامن من أكتوبر 2023، على التبشير بشرق أوسط جديد، يرتكن على ميزان قوى مغاير، معضلات عربية ثلاث: أولاها، نزوع إسرائيل إلى فرض الردع المهيمن، توطئة لاعتلاء قيادة المنطقة، بمباركة أمريكية. وذلك ضمن مخطط لإعادة بناء النظام الإقليمى، يتأسس على تحويل إسرائيل من قوة رادعة، إلى قوة مهيمنة. مستغلة تفوقها العسكرى والتكنولوجى، ضغوط شركاء حكومة، نتنياهو، المتطرفين، تنامى التوافق الداخلى حول سياسات نتنياهو العدوانية، علاوة على عجز إدارة بايدن عن لجم غطرسته، مع تحول الرئيس الأمريكى إلى «بطة عرجاء»، على مشارف الانتخابات الرئاسية.
وثانيتها، احتدام التنافس الجيوسياسى بين المشروعين الإيرانى والإسرائيلى، فى غياب مشروع عربى. فبموازاة انتقال المواجهة بين إسرائيل وإيران من الظل إلى العلن؛ ومن الوكالة إلى الأصالة، تتفاعل المخططات الأمريكية - الإسرائيلية، الرامية إلى تحويل الصراع العربى - الإسرائيلى، إلى صراع سنى - شيعى أو إيرانى - عربى. مع تجسير الفجوات بين إسرائيل والعرب، بذريعة مجابهة التهديد الإيرانى «المشترك»؛ عبر إعادة تسويق فكرة «الناتو العربى الإسرائيلى، المدعوم أمريكيًا»، فى مواجهة «المحور الإيرانى - الشيعى».
أما ثالثتها، فتتجلى فى تكريس بقاء المنطقة، طيلة قرون متواصلة خلت، ضمن إسار احتكار القوى الدولية العظمى، بمساعدة وكلائها من فواعل الجوار الإقليمى أو الكيانات المصطنعة والدخيلة؛ من دون أطرافها الأصليين، عملية هندستها جيوسياسيًا، وصياغة أنماط تفاعلاتها الاستراتيجية. بداية من صلاتها البينية، وصولًا إلى اتجاهات علاقاتها بمحيطها الإقليمى وفضائها الدولى.
• • •
تصطدم مساعى نتنياهو، لفرض شرق أوسط «إسرائيلى» بتحديين محوريين. أولهما، توجس واشنطن من تلاعب إسرائيل بتوازن القوى فى الإقليم. وذلك برغم حرصها على دعم مساعى إسرائيل لتعزيز نفوذها فى المنطقة، ما دام بقى فى خدمة الاستراتيجية الأمريكية. حيث تتبنى الولايات المتحدة استراتيجية كونية تقوم على استبقاء توازنات القوى فى 15 إقليمًا حول العالم، من بينها الشرق الأوسط. ولما كانت إيران دولة مركزية، تحرص واشنطن على الحيلولة دون انهيارها، أو سقوط نظامها، على وقع أطماع ومخططات نتنياهو، الأحادية قصيرة النظر، والتى لا تتماشى مع استراتيجية واشنطن حيال المنطقة.
أما التحدى الثانى، فيكمن فى حدود القوة الإسرائيلية. ففى مقابلة مع «سى إن إن»، علق رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، إيهود باراك، على تصريحات، نفتالى بينيت، بشأن لحظة إسرائيل التاريخية الحالية لتغيير الشرق الأوسط، بالقول: «إن إسرائيل، رغم قوتها، لا تستطيع إعادة هندسة المنطقة بمفردها، فهى بحاجة إلى تحالفات بقيادة واشنطن، كتلك التى اقترحها، بايدن، قبل عام مضى. علاوة على دعم من الاتحاد الأوروبى ودول ذات تفكير مماثل فى أمريكا الشمالية، والشرق الأقصى، يربطها بإسرائيل علاقات ثقة وتعاون».
إبان العدوان الإسرائيلى على لبنان عام 1982، زعم إريل شارون، الذى كان وقتذاك، وزيرًا للدفاع، أنه سيغير وجه المنطقة، ويؤسس لنظام شرق أوسطى جديد. يضم لبنانًا حرًا بحكومة مارونية موالية للغرب، ووطنًا بديلًا للفلسطينيين بالأردن، بعد القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وضمان الأمن للإسرائيليين. لكن جيش الاحتلال فشل فى احتلال بيروت، رغم قسوة حصارها. وبينما فجعه اغتيال بشير الجميل، بقيت منظمة التحرير، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. ثم تورطت إسرائيل فى جولات عسكرية متتالية ضد حزب الله، اضطرتها للانسحاب من لبنان؛ بعدما بدلت توازنات القوى فى المنطقة، على نحو سمح لإيران بتعظيم نفوذها الإقليمى، مستعينة ببرامجها التسليحية الطموحة، وأذرعها الولائية المسلحة.