جنون الماضى وألق المستقبل

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 14 نوفمبر 2013 - 7:40 ص بتوقيت القاهرة

لنتخيّل مراقبا عاقلا ومتزّناَ ينظر، بموضوعيَّة تامَّة وبلا أيّة مجاملة، إلى الأحداث التالية:

فى بلد عربى هناك خبر إيقاف زواج طفلة فى سنٍّ التاسعة. إن كل كتب علم النفس وكل تجارب الإنسانية تقول إن ممارسة الجنس مع الأطفال تؤدَّى إلى جراح وعلل نفسية تبقى معهم طيلة حياتهم وتحرمهم من فرح وطمأنينة براءة الطفولة. غير أنه، وبالرَّغم من تحذيرات علماء النفس والدروس التى تعلمتها البشرية، يوجد فى هذا البلد وفى غيره جهات ومنابر علنية تحلّل شرعا، بل وتشجٍّع علنا، الزواج من فتيات صغيرات لا حول لهنَّ ولا قوّة لرفض ما يعرض عليهن. لا توجد الدولة التى تحمى ولا القوانين التى تعاقب ولا المجتمعات التى ترفض وتقاطع، ويظلّ الموضوع غير محسوم لا فى الثقافة الفقهية ولا فى الثقافة العامة.

فى بلد عربى تقوم ثورة شعبية من أجل الديمقراطية. لكن ما إن يمر الوقت حتى تنزلق تلك الثورة لتصبح سوق نخاسة تبيع وتشترى فيها الدول الأجنبية المتصارعة، وقوى الجهاد التكفيرى العبثى المبتذل، وسفهاء أصحاب الثروات الذين يقحمون أنفسهم وثرواتهم فى لعبة الموت والدَّمار، وانتهازيُّو ألعاب السياسة المعارضون، وعبيد نظام الحكم الذين لا يرفُّ لهم جفن وهم يرون البلد يحترق ويتفتّت. وتكون النتيجة المفجعة أن بلدا كان ملء العين والبصر قد اصبح أرض اليباب ومقبرة للمسالمين الطيبين من أبنائه.

فى بلد عربى يتوقّف تصدير نفطه منذ أربعة شهور بسبب الصّراعات القبلية والجهويّة وبسبب ارتهان الدولة، مؤسسات ومواطنين، من قبل ميليشيات مافويّة أنانية تفضّل تدمير الوطن وإنهاء وجوده على أن تتنازل قيد أنملة عن مصالح وهلوسات وجهالة قادتها.

فى بلد عربى، كان مرشَّحاَ منذ أربعين سنة لينتقل من صفوف البلدان النامية ليصبح ضمن تصنيف البلدان المتقدمة، ينبش أطفاله الآن فى براميل الزبالة ليحصلوا على بقايا طعام يسدُّون به رمق جوع عائلاتهم. هذا البلد كان يفاخر بأنه اقترب من إنهاء الأمية بين شعبه لتصل نسبة الأمية اليوم فى ربوع أرضه الممزّقة المدمّرة المنهوبة إلى أكثر من ثلاثين فى المائة، وليضطر أطفاله للعمل لإنقاذ شرف أم أرملة بلا معيل وأخت لا تأمن على عفَّتها فى شوارع مدنها التى تشهد يوميا موت العشرات فى جنون لعبة تفجير السيارات المفخّخة وأحزمة شباب الجهاد التكفيرى الضّائع المشترى من قبل هذه الجهة أو تلك.

•••

فى بلاد العرب تدق طبول محاكمات الاستئصال وتصدح أصوات همجيُّة الخطاب ضد كل معارض بينما يرقص كثير من مدّعى الليبرالية والقومية واليسارية طربا فى حفلة زار ديمقراطية كاذبة يقودها رجال أمن يلبسون ألف قناع.

فى بلد عربى تجتمع أحزاب الحكم وأحزاب المعارضة وكثير من مؤسسات المجتمع المدنى أياما وليالى لتختار شخصية حيادية نظيفة من أجل تأليف حكومة انتقالية لتجرى انتخابات نزيهة. لكنهّا لا تستطيع أن تجد من بين الملايين من مواطنيها شخصية واحدة، نعم واحدة، يتفق عليها الجميع.

فى بلاد العرب تبتلع الصهيوينة ما تبقّى من أرض فلسطين بينما تتصارع القيادات على ما يرمى لها من فتات.

فى بلاد العرب لم تستطع جامعة الحكومات العربية أن تطفئ حتى ولو نارا مشتعلة واحد ولم يستيقظ بعد ضمير أحد ليدعو ولو لاجتماع قمّة واحد للخروج من الجحيم الشيطانى الذى تعيشه أمّتهم يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة.

فى بلاد العرب تتحارب الأديان والمذاهب والأيديولوجيات، لا من خلال الحوار وقبول الآخر، ولكن من خلال الإعلام الغامز الشَّاتم وإشهار واستعمال السّلاح القاتل.

فى بلاد العرب ينتشر وباء الحزن والضّياع والحيرة بين الجموع مما يجعل الحياة عبثاَ والموت عبثا.

•••

ماذا سيقول ذلك المراقب المحايد العاقل وهو يشاهد حفلات وجنازات الجنون تلك؟

سيذكّرنا أولا بقول ألبرت آينشتاين من أن «الجنون: هو عمل نفس الشىء مرات ومرات مع توقُّع الحصول على نتائج مختلفة».

أو سيذكرنا بقول الفيلسوف نيتشه من «أن الجنون بين الأفراد أمر نادر، لكن انتشاره بين الجماعات والملل والأمم هو القاعدة».

نحن إذن أمام محنة جنون السياسة والثقافة والفقه المتخلف. وفى الحال يطرح السؤال التالى نفسه: هل ما نراه حصاد ثورات وحراكات الربيع العربى؟

والجواب هو كلا وألف كلا ليس فى تلك المشاهد السوداء، وبالرغم مما تَّدعيه أبواق الثورات المضادة، ذرة من تواجد وألق شباب أو روح ثورات وحراكات الربيع العربى.

ما نراه هو بقايا علل وهلوسات وانفصامات جنون القرون الطويلة وهى تلفظ آخر وجودها فى النفس العربية الجديدة المتعافية، وما على شباب وحراكات الربيع العربى إلا إبعاد أنفسهم، كأفراد ومؤسسات، عن ممارسات جنون القرون الماضية تلك وعن كل من ابتلى بذلك الجنون فالمستقبل لهم طال الزمن أو قصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved