حتى لا تفيض الكأس

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 14 نوفمبر 2019 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

استأذنتُ الأسرة الصغيرة أن تسمح لي بأن أتناول معها طعام الغداء فسمَحَت لي. هذه الأسرة هي عبارة عن زوجين في منتصف العمر وابن شاب، عرفت لاحقا أنه في الثامنة عشر من العمر. كانت الأم تطعم ابنها من طبق الكسكس المغربي الشهير، عادة أهل المغرب العربي لا يتناولون الكسكس إلا يوم الجمعة لأنه اليوم الذي تلتقي فيه العائلة، لكن إكراما للضيوف من خارج المغرب صنعوا لنا الكسكس يوم الثلاثاء. بين كل ملعقة وأخرى كانت الأم تناول ابنها قطعة صغيرة من اللحم الضاني وتضبط حركة يدها بالتمام على وقع حركة فكيّه، يدير إليها رأسه ويسدد نظارته السوداء صوبها فتفهم طلبه دون أن ينبس، تسقيه من زجاجة المياه الغازية مرة، وتخطف منديلا ورقيا تنفض به ذرات الكسكس العالقة بفمه مرة أخرى، كان الابن كفيفا. لم أذكر منذ البداية أن مهدي، وهذا هو اسمه، كفيف، لأن تلك الصفة هي آخر ما يمكن أن يوصف به مهدي رغم أن إعاقته البصرية غير خافية، لكن بعد أن تدرك من أول وهلة أنك تراه ولا يراك ستجد بالتأكيد أن لديه الكثير مما ينفذ إلى ذاكرتك ويستقر في قلبك. ليس جميلا أن نعّرف الآخرين بما ينقصهم فهذا تعريف تمييزي، ثم أن كلاَ منّا تنقصه أشياء قد يفطن لها وقد لا يفطن. تنحنحتُ وبدأتُ الحديث مع مهدي فطلب من والدته أن تتوقف قليلا عن إطعامه، كان يجب أن أنتبه إلى أنه لا يستطيع أن يأكل ويتكلم في نفس الوقت، لكني لم أنتبه ولا هو نبهني، عموما تجاوز كلانا الموقف.

***
كان الغداء الذي جمعني بمهدي وعائلته تاليا على مشاركته في جلسة بمؤتمر دولي كبير عن حقوق الطفل، لم يعد مهدي طفلا بالتأكيد لكنه جاء يحكي عن حقوق الطفل من واقع تجربته الخاصة وقد شبّ عن الطوق وصار شابا ممشوقا ملامحه مريحة وإصراره بلا حدود. أول ما لفتني في مهدي أنه بدأ مداخلته في المؤتمر متحدثا بلغة عربية فصيحة ودون خطأ نحوي واحد ، يخرج لسانه بحرفية ظاهرة في الثاء والذال ويتوقف حيث يجب أن يتوقف، ثم إذا به يتحول إلى اللغة الفرنسية وما كان أقل إتقانا لها. عندما اجتمعنا على المائدة سألته: لماذا بدأتَ حديثك باللغة العربية؟ رد ردا قصيرا بليغا: لأني كنت أتكلم عن أشياء "أصلية" والأصلي لا يُعبّر عنه إلا بأصلي! هذا الجيل يغرقنا في صغائره ثم يفاجئنا بمستوى وعيه. أما ما كان يعنيه مهدي بالأشياء "الأصلية"، فإنما هو تعريفه بنفسه، لكأن هذا الشاب يريد أن يقول لنا إن البيانات الشخصية لا يجوز الإدلاء بها بغير مفردات اللغة الأم وإلا كانت مزيفة، وجهة نظر .

***
لم يلتقط مهدي شيئا من سلة حقوق الطفل المتعارف عليها كالحق في التعليم أو الصحة أو البيئة النظيفة و.. ولا هو تحدث عنها، فلقد كانت له سلّته الخاصة المملوءة بحقوق بسيطة جدا ، ودالة جدا جدا. حقه إن دخل مكانا أن يعرف إن كان مُضاء أم لا وأن يعرف درجة إضاءته ، ولأول وهلة قد يبدو أن الأمر سيان، لكنه في الواقع ليس سيانا لأن معلومة من هذا النوع لازمة لتكوين الصورة الذهنية التي تصل مهدي بالناس والأشياء والأمكنة، وفي غيابها يكون خارج السياق. حقه إن جلس لأداء الامتحان أن تكون إجابته من صنع يده لا من صنع شخص يسمع منه ويكتب له، هذا الشخص قد يتصادف أنه يعرفه والأسوأ أنه قد لا يعرفه، موجع جدا أن نأتمن من لا نعرف على نقل أفكارنا والتعبير عنها على طريقتهم وبأسلوبهم وربما حتى بأخطائهم الإملائية. حقه إن تصادف واضطر لأن يصّب الماء لنفسه أن يعرف متى يتوقف عن الصّب ويحدد أي نقطة إن أضافها امتلأت الكأس وفاضت، ففيضان الكأس يحرجه. ترى هل نحن نحتاج تطويرا لمنظومة حقوق الطفل / الإنسان لتتسع لمثل تلك الحقوق التي يطالب بها مهدي؟ أم نحن نحتاج لأنسنة نظرتنا إلى أمثال مهدي لنهتم بتفاصيل التفاصيل غير المرئية في منظومة الحقوق القائمة؟ بمعني من المعاني يمكن القول إن ما تحدث عنه مهدي إنما ينتمي لحقوق من نوع الحق في المعرفة والحق في التعبير عن النفس والحق في الكرامة، لكن بمنظور مختلف.. مختلف تماما.

***
نبهتَنا يا مهدي لمعاناتك الصغيرة / الكبيرة وكنا نتصور أن العصا في يد أمثالك أولى باهتمامنا، فالعصا تتوكأ عليها وتحدد لك معالم الطريق، تزع بها المتنمرين بكل مختلف عنهم وتكون ونيستك حين لا تجد الونس، لكنك خرجت علينا وليس في يدك عصا وفاجأتنا بأن بعض همّك نقطة ماء تزيد عن سعة الكأس. قاتل الله الغابة التي تلهينا عن أشجارها، والعصا التي تصرفنا عن صاحبها، والتعميم الذي يمحو الفروق ويطمس الفسيفساء بكل جمالها. على أي حال لم تكن تلك هي مفاجأة مهدي الوحيدة ولا حتى الكبيرة، فمفاجأته الكبيرة أنه صمم جهازاً بسيطا "على قدّه" يصدر ذبذبات تنبهه متى امتلأت الكأس حتى يتوقف ولا يصّب المزيد، وهذا التفنن والابتكار يشرح لنا بالضبط ماذا يعني بالنسبة له موضوع الكأس. لقد تشرفت بمعرفتك يا مهدي .. تشرفت جدا، وامتد تأثيرك فيّ إلى ما بعد غدائنا المشترك وتعلمت منك، فقد عشت عمري أتصور أن النقطة التي تفيض الكأس تفجّر الغضب ولا شيء غير الغضب، إلى أن رأيتك وجالستك فعرفت منك أن هذه النقطة أيضا قد تفجّر الألم .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved