قصة العرب مع أنفسهم: رواية «الربيع العربd» أم حكاية «الفوضى الخلاقة»؟

فيس بوك
فيس بوك

آخر تحديث: الخميس 14 نوفمبر 2019 - 9:59 م بتوقيت القاهرة

نشر الكاتب الأردنى لبيب قمحاوى مقالا على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعى فيسبوك ونعرض منه ما يلى:

هل العرب الآن فى طريقهم لتغيير تاريخ المنطقة أم للخروج منه تماما والعودة إلى ما كانوا عليه من قبل، قبائل مبعثرة هنا وهناك يحكمها ويدير أمورها القاصى والدانى؟

لقد وصل اليأس بالعرب إلى الحد الذى جعلهم يتعلقون بأى تطور مهما كان بسيطا باعتباره مدخلا لتغيير الأمور نحو الأفضل. وهذا الإصرار على التعلق بالقشة ــ كما يقول المثل ــ يعكس حالة الهبوط المستمر والإحباط المرافق لها والذى أخذ يكتسح العالم العربى فى العقدين الأخيرين.

فمحاولة التعلق بالقشة هى كمحاولة التعلق الساذج بالأمل فى غياب العوامل الموجبة لذلك. ولكن هل يكمن الحل فى الانفجار من منطلق «على وعلى أعدائى» كما يشير إليه الوضع فى لبنان والعراق الآن خصوصا بعد نجاح التجربتين السودانية والتونسية فى التغيير، أم أن هنالك أسبابا حقيقية موجبة تستدعى قدرا مشروعا من التفاؤل؟

البحث فى الرماد نادرا ما يكشف عن أية جواهر بل غالبا ما يكشف عن لا شىء سوى الرماد نفسه، وهذا هو حال العرب الآن. فساد كبير متغول وظلام دامس لا يفسح المجال أمام النور، إلا القليل من الشعاع هنا وهناك وبين حين وآخر وبشكل متقطع، وهو ما يؤكد أن إصلاح الأمور لا يمكن أن يأتى من خلال الأنظمة السائدة، والتى تحاول الآن جاهدة أن تطرح نفسها كإطار وحيد وأمثل للتغيير، محاولة بذلك التنصل من حقيقة كونها أساس المشكل كما هو عليه الحال فى كل من لبنان والعراق والجزائر.

هنالك من يعتقد أن حكاية ما أصبح يدعى «الربيع العربى» قد ابتدأت بتصريح وزيرة خارجية أمريكا فى عهد الرئيس بوش الابن (كوندوليزا رايس) عندما طرحت شعار «الفوضى الخلاقة» كوسيلة للتغيير؟ هل هذا صحيح أم أن الأمر يفوق ذلك وأن هنالك أكثر من طرف ربما يكون قد التقط تلك الفكرة أو الإشارة بما فى ذلك بعض الأحزاب الإسلامية والعربية، أم أن هنالك من اختار، إما عن سذاجة أو لؤم، أن يضفى على الحراك العفوى للجماهير العربية هذا اللقب أو العنوان مما فسح المجال واسعا أمام نظرية المؤامرة.

إن الدعوة إلى التغيير من خلال تبنى نهج «الفوضى الخلاقة» غالبا ما تفشل أو تؤدى إلى الفوضى والتسيب أو قد تفتح الباب أمام قوى أخرى للتحرك ومصادرة ذلك الحراك تماما كما حصل فى الأردن خلال العقد الماضى ومحاولات الإخوان المسلمين هناك ابتلاع الحراك الشبابى الأردنى. وبخلاف تونس التى تتمتع تاريخيا بدولة مدنية قوية وضعت أساساتها فى عهد الحبيب بورقيبة، فإن مسار ما أصبح يدعى «الربيع العربى» فى دول أخرى مثل ليبيا واليمن قد اقتصر على التخلص من رئيس الدولة الحاكم المستبد الفاسد ولكنه أدى بالنتيجة إلى تفكيك الدولة بحكم تدخلات ومؤامرات خارجية، وضعف البنية المؤسسية للدولة وافتقارها إلى الهيكلية اللازمة لإبقاء المجتمع مترابطا ضمن إطار الدولة الوطنية.

الربيع العربى بما له وما عليه أصبح جزءا من التاريخ السياسى للمنطقة، وأصبح من الضرورى علينا أن ندرس ما حدث بواقعية حتى نتعلم الدروس ونستخلص العبر ونستفيد منها، أو ــ بكلام أدق ــ حتى نفهم ما الذى حصل فعلا وأوصلنا إلى ما وصلنا إليه وما هى الأسباب الكامنة وراء عوامل الفشل عموما والنجاح أحيانا.

التاريخ السياسى العربى مشكوك فى أصالته ودقته، وهو غالبا ما يعكس رواية الطرف المنتصر أو الحاكم. والظاهرة الأكثر بروزا فى العقد الأخير وهى ظاهرة ما أصبح يدعى «بالربيع العربى» قد انطلقت من حالة اليأس وغياب قنوات التعبير أو التغيير السلمية والتى فاقمت من حالة الرفض والغضب المرتبط بالقنوط لدى أجيال الشباب ودفعتهم إلى الانفجار العشوائى المفتقر إلى أى نوع من البرنامجية السياسية أو التنظيم المطلوب لإنجاح مسار مثل ذلك التحرك كما هو عليه الحال الآن فى لبنان والعراق.

ولكن ما هى الأسباب التى أدت إلى الانهيار فى العديد من دول «الربيع العربى»؟

قد تعود الأسباب إلى ضعف هيكلية معظم الدول التى انبثقت عن اتفاقية سايكس ــ بيكو قبل مائة عام، وعدم قدرة تلك الدول على التطور وتطوير نفسها، ووقوع معظمها تحت أنظمة مستبدة انقلابية لا تدين بالولاء لشعوبها ولا تشعر بأى التزام تجاهها كونها لا تستمد شرعيتها من شعوبها بل من آلة القوة التى مكنتها من الاستيلاء على الحكم.

النظر خلفا إلى سايكس ــ بيكو لا يهدف إلى تبرير ما حصل أو إلى إيجاد حائط مبكى لما نحن فيه من مآسٍ، بقدر ما يهدف إلى إيضاح ضعف أساسات الدولة القطرية العربية الحديثة، والمآل الذى وصلت إليه بحكم تآكل مؤسساتها الوليدة عوضا عن تطويرها وذلك نتيجة لأنظمة الاستبداد.
من المستحيل البحث عن حلول من خلال العودة إلى الخلف ومحاولة إعادة كتابة التاريخ أو لوم الآخرين على ما نحن فيه. علينا أن ننطلق مما نحن فيه ونحاول البحث عن حلول لمشاكلنا وقضايانا. والأسلوب يجب أن يبتعد تماما عن الانتهازية وجلد الذات بل يجب أن ينطلق بروح إيجابية تسعى إلى التغيير وليس إلى التدمير.

مفهوم التغيير السلمى هو فى العادة تراكمى ويأتى عبر سنوات طويلة من الممارسة الديمقراطية ومن تجارب الخطأ والصواب. ولكن المشكلة تكمن فى أن العرب وضعوا أنفسهم فى مواقع أفقدتهم الكثير وجعلت من الوقت عملة نادرة لا يملكوها. وهذا يعنى أن على العرب أن يقفزوا قفزا نحو التغيير السلمى ولكن ضمن منظور البحث عن الحياة وليس السعى نحو الموت.

التمسك بناصية العلم وبناء المؤسسية واحترامها هما أساس التغيير. والديمقراطية على أهميتها ليست بالضرورة المدخل الوحيد المفتوح أمام العرب للتغيير والتقدم وهنالك المثال الصينى القائم أمامنا الآن. فالصين الآن فى طريقها لأن تصبح ثانى أقوى دولة فى العالم دون أن يربط الصينيون تقدمهم ونجاحهم بالديمقراطية. فالدول مثل الأفراد تملك الخيارات الخاصة بها، وإذا ما سعت أى دولة نحو البناء الاقتصادى أو التنموى أو العسكرى فإن ذلك يتوقف على الإدارة والتخطيط السليم المخلص القادم من القيادة. أما فى حالة غياب النمط المنشود من القيادة القادرة على التخطيط والتنفيذ، فإن بقاءها يصبح فى هذه الحالة عقبة أمام التطور والتطوير ويصبح المسعى نحو تغييرها أمرا حتميا لمنع الانهيار.

***
التغيير السلمى هو انعكاس لوعى الشعب وقدرته على إحداث التغيير المنشود من أجل المصلحة العامة دون الولوج فى عملية تدمير الذات أو تدمير ما تم إنجازه مهما كان ذلك الإنجاز ضئيلا. الوعى يجب أن يكون بالتالى وعيا عاما وليس محصورا بالنخب. فدور النخب فى التوعية والقيادة يجب أن لا يكون بمعزل عن الشعب أو خارج إطار الشعب أو من فوقه وإلا عدنا إلى المربع الأول. الوعى العام للشعب والوعى المبكر للنخبة هى عملية تكاملية إحداهما مكمل للآخر والنخب الصحيحة والفاعلة تلعب دورها دائما من خلال الشعب ومؤسسات المجتمع المدنى.
إن تكامل الأدوار فى أى مجتمع ناهض هو أمر أساسى للنجاح. وأى تحرك يأتى منفردا أو دون اعتبار لأهمية تكامل الرؤية وتكامل الحلول هو الأساس لفشل مسار التغيير، وبغير ذلك يصبح ذلك المسار إما غير سلمى أو عنيف أو أحادى انقلابى.

أدوات التغيير الشعبية الجماهيرية فى المجتمعات النامية تجنح إذا نحو الاعتماد إما على دعم المؤسسة العسكرية كونها الأكثر تنظيما وإمكانات، أو تجنح إلى خيار الفوضى من منطلق «على وعلى أعدائى» وذلك إذا ما افتقرت إلى تنظيم جماهيرى وبرنامج عمل، أو إذا ما فشلت فى استقطاب الدعم اللازم لإجماع جماهيرى ملحوظ. وفى أحيان أخرى وكما حصل فى السودان جاء الحل من خلال معادلة /عسكرية، وكذلك جاء الحل المدنى فى تونس بدعم غير مباشر من المؤسسة العسكرية، علما بأن كلتا الدولتين تتمتعان بمجتمع مدنى قوى ونخبة قيادية ناضجة نسبيا على الرغم من الاختلافات فى الرؤية وهى ظاهرة صحية فى معظم الأحوال. وهكذا يصبح دور المؤسسة العسكرية الواعية فى دعم المسعى الجماهيرى نحو التغيير ضروريا لتعبئة الفراغ الناجم عن ضعف أو غياب مؤسسات المجتمع المدنى القادرة على تنظيم وإنجاح الحراك الشعبى الجماهيرى.

السعى نحو التغيير هو وسيلة للوصول إلى أهداف وليس هدفا بحد ذاته، وإلا أصبح الأمر جهدا عبثيا قد يحطم آمال التغيير أو يدفع المجتمع إلى الفوضى أو الاقتتال. الفوضى غالبا ما تكون نتيجة لتدخل السلطات الحاكمة وجهودها السلبية الرامية إلى منع التغيير بأى ثمن. وهذا الموقف قد يدفع بالعديد سواء من المواطنين أو من النخبة إلى اتخاذ مواقف متشددة فى عدائها أو فى عدوانيتها انطلاقا من فقدان أى قناعة لديهم بجدوى التغيير السلمى من خلال الحفاظ على الوضع القائم أو بموافقته كونه المسئول عما آلت إليه الأمور من خراب وانهيار. وهكذا تتشابك الخيارات ضمن المجتمع نفسه؛ وذلك نظرا لغياب البرنامج أو التنظيم أو المؤسسية أو القدرة على الحوار السلمى بين أطياف المجتمع المختلفة، أو بينها وبين السلطة الحاكمة صاحبة الرغبة الأكيدة فى منع التغيير الحقيقى، وهو ما يجرى الآن فى كل من لبنان والعراق والجزائر.

النص الأصلي

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved