الدروس الأمريكية

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 14 ديسمبر 2014 - 3:34 م بتوقيت القاهرة

لماذا تصبح الدول القوية قوية؟

كما شاهدنا الإجابة يوما فى مشهد انهيار جدار برلين (١٩٨٩) الذى أعلن انتصار قيم وهزيمة أخرى، شاهدناها أيضا جلية واضحة قبل أيام فى مشهد السيدة Dianne Feinstein تقدم تقرير اللجنة التى شكلها مجلس الشيوخ الأمريكى للتحقيق ومساءلة مسئولى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA عن «تجاوزات» بدت تنتهك حقوق الإنسان.

لم يشفع للتجاوزات دعاوى أنها كانت بهدف «الحرب على الإرهاب» أو الحفاظ على الأمن القومى الأمريكى. كما كان واضحا أنه «حيث الديموقراطية لا حصانة لأحد».

by Paresh Nath

بلغة الأرقام، فإن التقرير الذى عكفت على إعداده لجنة تحقيق خاصة من الكونجرس مدة خمس سنوات كاملة جاء فى ٦٧٠٠ صفحة (التقرير الملخص المنشور يقع فى ٥٢٥ صفحة)، وكان كل هذا الجهد ينصب أساسا على التحقق من مدى «قانونية» الأساليب التى جرى استخدامها فى احتجاز والتحقيق مع ١١٩ متهما بالانخراط فى أنشطة «إرهابية» ذات علاقة بعملية ضرب برجى التجارة العالمى فى ١١ سبتمبر ٢٠٠١ وبينهم خالد شيخ محمد الذى اعتبر العقل المدبر للعملية.

بلغة الأرقام أيضا ففى ٢٠١٤ وحدها (وتحديدا من أول يناير وحتى ١٦ نوفمبر) فقد ٩٠ مواطنا مصريا حياته لأسباب مختلفة داخل غرف الحجز بأقسام الشرطة المصرية (حسب تقرير لجريدة الوطن فى ١١ ديسمبر ٢٠١٤) وحسب التقرير الصحفى فضمن الأسباب أن هناك من يقضى عاما كاملا «فى غرفة ضيقة نصيبه من مساحتها لا يتجاوز نصف متر» لا يغادرها إطلاقا، وذلك حسب التقرير «لعدم وجود أماكن شاغرة فى السجون المكتظة بشاغليها» (بعض الأمور فى غنى عن التعليق).

وبلغة الأرقام ثالثا فإن عدد ضحايا واقعة سيارة الترحيلات الشهيرة (١٨ أغسطس ٢٠١٣) والتى لم يعاقب فيها أحد بلغ ٣٧ من المواطنين المصريين، بينهم من كان قد ألقى القبض عليه عشوائيا من الشارع.

وبلغة الأرقام رابعا فإن عدد المواطنين الليبيين الذين أعدمهم نظام القذافى سرا (فى ساعة واحدة دون تحقيق أو محاكمة) فى مجزرة سجن بوسليم الشهيرة (يونيو ١٩٩٦) تجاوز الألف.

وبلغة الأرقام خامسا أن عدد العراقيين الذين أبادهم نظام صدام فى مذبحة «حلبجة» (مارس ١٩٨٨) تجاوز الثلاثة آلاف فى أقل التقديرات.

وبلغة الأرقام سادسا يصل عدد «الإرهابيين» حسب ما تقوله البيانات الرسمية؛ الذين «قضينا عليهم» قى هجمات ومداهمات مختلفة فى سيناء وغيرها إلى ٥٤٩ حتى تاريخ كتابة هذا المقال.

وبلغة الأرقام سابعا (وليس أخيرا) وصل عدد ضحايا «الدولة» الإسلامية هذه المرة (داعش) خلال شهر نوفمبر فقط إلى ما يزيد عن الألفين. وبعضها إعدامات دون محاكمة. ناهيك عن ضحايا التفجيرات الجهادية «انتحارية وغيرها» فى شتى أرجاء المعمورة والذى تجاوز الخمسة آلاف حسب تقرير أخير.

كأنها «دائرتنا الجهنمية المغلقة» ندور داخلها بلا توقف. هو العنف ذاته، وهى الدماء ذاتها، وهي التوليتارية ذاتها، مهما اختلفت القبعات. وهي الناتج الطبيعى لوهم احتكار الحقيقة المطلقة؛ دينية كانت أو وطنية أو عِرقية لا فرق.

للذين يريدون حقا القضاء على الإرهاب، ويدركون أهمية مواجهة «المرض لا العرض» أن يعودوا للأرقام عاليه.

•••

هل نجحت الأساليب «القاسية» أو اللجوء لتعذيب الجناة أو المشتبه بهم (أو حتى هجمات الأباتشى أو الطائرات بدون طيار) فى «مكافحة الإرهاب» أو فى جعل العالم أكثر أمنا؟

يجيب تقرير مجلس الشيوخ «بلا قاطعة». ويجيب الواقع أن فى الأسبوع ذاته وبعد ثلاثة عشر عاما من إعلان بوش «حربه على الإرهاب»، فجر انتحارى طالبانى نفسه داخل مسرح المدرسة الفرنسية فى كابول، واضطرت إدارة أوباما إلى إغلاق سجن «باجرام»، بعد أن استوعبت الدرس الذى يقول ببساطة أن العصا الغليظة، مهما كانت قاسية وعنيفة ومتجاوزة، لن تفلح أبدا فى التعامل مع إرهاب يعشش فى عقل «انتحارى» يغذيه ليس فقط فكرٌ عقيمٌ لكتب موروثات قديمة، بل وإحساسٌ واقعىٌ بالظلم والقهر وعدم المساواة.

من الدروس أيضا أن بعد أحد عشر عاما على وقفة بوش الطاووسية على المدمرة Abraham Lincoln ليعلن ما تصوره نجاحا Mission Accomplished، نجح تنظيم «الدولة الإسلامية» أن يسيطر واقعيّا على مساحات شاسعة من أراضى «دولتى» سوريا والعراق.. لماذا؟ لأن العدو الحقيقى للحرب على الإرهاب لم يكن ساعتها بن لادن المختفى فى كهوف «تورا بورا» أو الذى جرى إعدامه فى بيت ريفى فى «أبوت آباد» بل حكومات مستبدة لم تعدل يوما بين مواطنيها، كما لم تدرك أبدا خطر اللعب بنار الطائفية التى أمسكت فى أطراف ثيابها فى نهاية الأمر.

«الدولة» .. والدول

•••

فى مايو ٢٠٠٤ نشر سيمور هيرش فى النيويوركر The New Yorker تحقيقه «الفاضح» لما فعله الجنود الأمريكيون ورجال المباحث والاستخبارات الأمريكية فى سجن أبو غريب، فاهتزت الولايات المتحدة، كما كانت قد اهتزت من قبل نتيجة لتحقيقه أيضا عن مذبحة مذبحة My Lai الفيتنامية (نشر فى نوفمبر ١٩٦٩). والشاهد أنه على مدى تلك السنوات، لم تتوقف «الصحافة» الحقيقية عن أداء دورها كأداة رقابة ومحاسبة، دون أن تخشى اتهاما بأنها تساند الإرهاب، أو بأنها تضر الأمن القومى، ودون أن يساق صحفيوها إلى القضاء تحت طائلة قوانين «متحفية»، أو «مستحدثة» لا هدف لها غير «إرهاب» أصحاب الكلمة. ولا أثر لها فى الواقع غير «إزاحة التراب تحت السجادة». قوانين سلطات اعتادت لافتات «ممنوع الاقتراب والتصوير» فأدمنتها، دون أن تعى أن الأرض تدور حول الشمس مرة كل يوم. وأن هذا زمان google earth وويكيليكس وجو سنودن.

درس «العدالة العمياء المجردة» لم يكن فقط فى تحقيقات سيمور هيرش عن ظلم وقع على عراقيين أو فيتناميين، بل كان أيضا فى حكم محكمة حقوق الإنسان الأوروبية هذا الأسبوع بإلزام السلطات الفرنسية بدفع تعويض «لقراصنة صوماليين» كانوا هاجموا سفنا ترفع العلم الفرنسى، واحتجزوا رهائن فرنسيين قبل أن تنجح القوات الفرنسية فى تحريرهم واعتقال القراصنة. أما لماذا عاقبت المحكمة السلطات الفرنسية؟ فالسبب أنها تأخرت فى عرض «القراصنة» الموقوفين على المحكمة ٤٨ ساعة كاملة. (تفاصيل القصة هنا)

فى الأخبار ذات الصلة أيضًا أن فى الأسبوع ذاته، وقبل أيام من تقرير مجلس الشيوخ نجحت السلطات الأمريكية فى «التخلص» من عبء ستة من معتقلى جوانتنامو (فلسطينى وتونسى وأربعة سوريين) بإعادة توطينهم فى أورجواى. ودون حاجة للمقارنة، فأحسبنا جميعا نعلم أن فى بلداننا العربية «والمسلمة» حيث من قتل نفسا بغير حق «فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا» كم كان سيكون «التخلص» من صداع مثل أولئك المعتقلين أسهل كثيرا وأرخص ثمنا. لا فارق فى الجغرافيا كبير بين سجن أبو غريب أو بوسليم أو سيارة ترحيلات أبو زعبل. كما لا فارق فى التاريخ كبير بين «السياف» يقف على باب الخليفة، وبين الأباتشى تقتل يوميا دون محاكمة. وبالتالى فلم يكن غريبا أبدا أن نعرف الآن رسميا بتورط الأجهزة الأمنية لدول عربية وإسلامية فى برنامج «توكيل آخرين للقيام بالعمليات القذرة» والذى أسماه التقرير الأمريكى «ببرنامج الترحيل السرى». وكانت تقارير صحفية غربية «غير رسمية» قد أشارت إلى ذلك أكثر من مرة.

لم يكن غريبا إذن أن يخرج التقرير الأمريكى «الرسمى» ليدين قيام رجال الاستخبارات الأمريكية «بصفع» أكرر «بصفع» خالد شيخ محمد؛ العقل المدبر لاعتداءات ١١ سبتمبر التى راح ضحيتها ثلاث آلاف من المواطنين الأمريكيين، ولكن أليس غريبا، ومجافيا للمنطق أن نجد بيننا؛ إعلاما ومسئولين ومواطنين من يعاير الأمريكيين بهذا التقرير.

بمناسبة المنطق، وللتذكير فقط: جاء أيضا فى الأخبار أن المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وبينها «هيومان رايتس ووتش» والمتهمة عندنا بأنها منظمات عميلة لواشنطن سارعت بإصدار بيانات تنديد قوية لما قامت به السلطات الأمريكية مع المعتقلين العرب والمسلمين وكشفه التقرير «الأمريكى».. مجرد ملاحظة.

•••

يبقى أننى أعارض دوما السياسة الأمريكية الرسمية التى تكيل بمكيالين، كما لم أكن أرى أى اختلاف بين بن لادن (بفسطاطيه) وجورج دبليو بوش الإبن (بمقولة من ليس معنا فهو ضدنا) اللهم إلا فى طول القامة لبن لادن وربطة العنق «والابتسامة البلهاء» للرئيس الأمريكى الذى كان يظن أنه «مبعوثٌ من الرب» (!)، ولكنى أنحنى احتراما لآلية ديموقراطية لا تمنع نواب الشعب (بدعوى اعتبارات الأمن القومى) من محاسبة جهاز الأمن القومى الأول CIA، عن تجاوزات لحقوق الإنسان «المسلم» فى زمن شاع فيه الاتهام على الهوية، وأصبح فيه البعض يخشى الحديث عن الإسلام فى بلاد مسلمة.

كما يبقى أن لا أحد بوسعه أن يدعى نظافة السجل الطويل للاستخبارات المركزية الأمريكية، أو للسياسة الأمريكية الرسمية. ففضلا عن ما تخبئه الصناديق السوداء الكثيرة، يذكر أبناء جيلى كيف أطاحت الذراع الاستخباراتية للإمبريالية الأمريكية بحكومة مصدق فى إيران ١٩٥٣، وبسلفادور الليندى فى تشيلى ١٩٧٣ وبكثيرين غيرهما. ونذكر بالتأكيد كيف أنقذت واشنطن اسرائيل من «الهزيمة الكاملة» فى أكتوبر ١٩٧٣، وكم مرة استخدمت الفيتو لحمايتها من قرارات أممية عادلة. كل ذلك صحيح، وربما أكثر منه. ولكن ذلك كله قصة أخرى. إذ أحسب أن من «النضج» أن ندرك بدهية أن ما فى أمريكا، وكذلك ما يأتى منها ليس خيرا كله وليس شرا كله. إذ حين تتوافر آليات محاسبة ومساءلة؛ صحفية وبرلمانية تستنكر وتحاسب على استخدام القسوة مع متهمين «حتى لو كانت تهمتهم الإرهاب»، وحين لا تفرق تلك الآليات بين كون هؤلاء أمريكيين أو عربا أو مسلمين، فى زمن أطاحت فيه «الإسلاموفوبيا» بعقول الناس، وحين يصبح لا أحد فوق المحاسبة «على إساءة استخدام السلطة» حتى لو كان أقوى جهاز استخبارات فى العالم، وحين لا يصبح هناك أجهزة «سيادية» لأن السيادة للشعب وحده، فهذا هو الخير كله. أو بالأحرى هذه هى الديموقراطية. التى تجعل الدول القوية قوية.. والتى علينا أن نتعلم.

•••

وبعد..

فأرجو أن يكون هناك من يدرك أن انهيار جدار برلين (١٩٨٩) لم يكن إعلانا لانتهاء الحرب الباردة فحسب، بل كان فى جوهره إعلانا لانتصار ثقافة تقوم على الحرية والديموقراطية والمساواة والشفافية والمساءلة، وهزيمة لنظم أسكرها فهمٌ خاطئ لمصطلح «الدولة» يفسح الطريق واسعا لسيطرة أوليجاركيا الفساد والقمع والسلطة. كان باختصار إعلانا لسقوط «الدولة الأمنية». وهزيمة تاريخية لم تحل دونها استعراضات الجيش الأحمر المهيبة فى ساحة الكرملين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ ماذا في التقرير

ــ التعذيب في أبو غريب - تحقيق سيمور هيرش

ــ The My Lai Massacre, by Seymour Hersh

ــ هلا عرفتم أن الجدار قد سقط

ــ

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved