لا مكان لسترته فوق المشجب

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 14 ديسمبر 2017 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

مضى أسبوع كامل على عودة زوجها من عمله الخليجي وهي لم تزل بعد غير قادرة على استيعاب الموقف الجديد الذي وجدت نفسها فيه، مجرد استخدامها مصطلح "الموقف الجديد" يكشف عن عمق الأزمة التي تتفاعل في داخلها فهذا الموقف "الجديد" الأصل فيه أنه الموقف الطبيعي ومع ذلك فإنها لم تتأقلم معه ، لم تدخل مجددا في البالون المشترك الذي جمعهما معا قبل خمس سنوات ببساطة لأنه صار لها بالونها الخاص. هذا البالون الخاص بها راحت تنفخ فيه رويدا رويدا وترسل إلي داخله تجاربها وذكرياتها وحكاياها وصداقاتها الجديدة حتى إذا امتلأ عن آخره مطلوب منها اليوم أن تفرغه لتدخل في بالون قديم /جديد.. تنهدت قائلة : تقطعت أنفاسي وحماستي أيضا. غريب أمرنا نحن البشر بل غريب جدا فنحن نبدّل مشاعرنا ونتصدق ببعضها طوعا حتى وإن بدا هذا البعض في سابق الأيام حميما وحقيقيا ومستقرا.
***
مازالت تذكر يوم 12/12/2012 عندما دخل عليها زوجها ملوحا بعقد عمل في البلد الخليجي إياه وهو يكاد يطير فرحا، لحظة انتظراها طويلا.. خططا لها واتفقا عليها ووسطا طوب الأرض من أجلها حتى إذا جاءت لم تخل هذه اللحظة من مفاجأة. عندما ضمها إلي صدره وهو يمنيها بقرب نهاية سنوات الشقاء اختلط عليها الأمر فما عادت تدري أهي نهاية الشقاء أم بدايته. منذ أن ارتبطت به وهي تعيش علي الهامش.. تعتمد عليه في كل صغيرة وكبيرة، لا تقرر إلا بعد أن تشاوره ولا تَعِدُ إلا إن أعطاها الضوء الأخضر، وحين كان يعاكسها ابنهما الوحيد كانت تهدده بأنها ستشكوه إلي أبيه فيرتدع ولا تُقْدِم على شكواه أبدا، تسلمه راتبها وتحفظ ما تبقي من قطع حليها في دُرجه المقفول. تطهو له ما يحب وتؤقلم نفسها وابنها على تناول وجبته المفضلة :البامية باللحم الضاني وإن لم يستطيباها كثيرا، ترد على الهاتف الأرضي بصوت خفيض وتسير على أطراف أصابعها بحرص كراقصة باليه حين يخلد إلي قيلولته. ترقبه آخر كل شهر وهو يٌعّد نصف دستة من المظاريف لإيجار البيت والمصروف الشهري والدروس الخصوصية والجرائد والمجاملات العائلية وأيضا للزكاة. وها هو في يوم 12/12/2012 يستعد للسفر ويترك لها كل تلك المهام والمسؤوليات فماذا هي صانعة ؟ أضيفَ لقلقها من الجو العام في البلد قلقها على المستوي الشخصي، لم تكن تعلم إلى أين تأخذ مصر هذه الجماعة ولا هي باتت تعلم إلي أين سينتهي بها الحال عندما يذهب زوجها لبلاد الغربة والمال . شاركته سعادته الغامرة بكلمات مشجعة من وراء قلبها وجلست أمامه كتلميذ يُفهمُها ويوعيها ويوصيها وينقل المهام واحدة واحدة من كاهله إلي كتفيها.
***
في الشهور الأولى لغيبته لفّها فراغ كبير، هذا المشجب الخشبي الطويل الذي كان يعلق عليه سترته بدا عاريا، هذا المقعد المحجوز له على طاولة الطعام لا يجرؤ أحد على استخدامه بسبب خزعبلات لا توجد إلا في رأسها، هذا الدرج المقفول ما عاد مقفولا أفرغته من محتواه وخبأت أشياءها الثمينة على طريقتها هي. لم يكن الفراغ والوحشة هما الشعوران الوحيدان اللذان كانا يتملكانها لكن معهما كان يطاردها شعور طاغ بالخوف من الفشل، أن تفشل في أن تلعب دورا مزدوجا في تربية ابنها، أن تفشل في تدبير أمور المنزل وإصلاح أعطال الإنترنت المتكررة والسباكة والسيارة وما يستجد من أعطال، أن تفشل في حماية نفسها في مجتمع ينظر لكل امرأة بلا رجل باعتبارها صيدا حلالا. وحين كانت تجلس في المساء لتهاتف زوجها على الڤايبر وتقدم له كشف حساب اليوم دون مشاكل كبيرة كانت تنام قريرة العين. شيئا فشيئا بدأت تثق في قدراتها، تبين لها أن قيادة السيارة ليست معجزة وأنها ليست مضطرة دائما إلى أن تجلس علي يمين السائق، وجدت أن مفتاح شقتها لا يفتح على فراغ كبير بل يفتح على حرية كبيرة وأن المشجب الخشبي الطويل يعطيها فرصة ممتازة لتلقي عليه بملابسها بعد يوم من وجع القلب في المدرسة الإعدادية التي تعمل بها. اعتادت أن تطهو أطباق الكِشك وحساء الطماطم التي تحبها وتعلمت كيف تطهو الهامبرجر لابنها ولم لا .. اكتشفت أن الحياة ربما لا تكون أسهل بل هي يقينا ليست أسهل لكنها أمتع بكثير .
***
وها هي فترة الإعارة تنتهي بعد خمس سنوات كاملة من البعد والغربة والعلاقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان زوجها في غربته يسير جنب الحائط كما يقولون لكن أزمات المنطقة وأسعار النفط وضعت حدا لعمله في الخليج فعاد مضطرا . عاد بعد أن تضخمت ذاتها في الفراغ الذي كان قد خلفه من ورائه، وهذا إيذان بصدام وشيك بين ذاته وذاتها. مرت بعينيها على أنحاء غرفة نومهما وتوقفت أمام المشجب الخشبي الطويل وملابسها تغطيه وتحسبت لذلك اليوم الذي يفرغ فيه زوجها حقائب سفره كاملة فلا يجد على المشجب مكانا يعلق عليه سترته .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved