فيلمان من سوريا

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 14 ديسمبر 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

شاهدتُ فى الدورة التى انتهت أخيرا لمهرجان القاهرة السينمائى الـ39 فيلمين روائيين طويلين من سوريا. مخرجان من جيلين مختلفين، يقدمان رؤيتهما، فيمزجان الحرب بالحب، فى دمشق وحمص، مدنٌ تعانى، وقلوب تعشق، هناك ملاحظات فنية بالتأكيد على كل فيلم، ولكنها تجارب لافتة، وتفتح أبوابا للتأمل والحوار.
الفيلم الأول بعنوان «طريق النحل» للمخرج المعروف عبداللطيف عبدالحميد، صاحب الأفلام المدهشة مثل «ليالى ابن آوى»، و«رسائل شفهية»، و«ما يطلبه المستمعون»، و«نسيم الروح».. لديه لمسة خاصة ساخرة تميز عالمه، وأبطاله يجدون أنفسهم عادة أمام اختيارات صعبة، الحرب فى فيلمه مجرد انفجارات نسمعها، أو حكايات تروى، ولكن قصته المحورية عن طالبة فى كلية الطب البيطرى اسمها ليلى، تقع فى حيرة ثلاثية الأبعاد: حبيبها المهاجر الذى وصل إلى ألمانيا، ويريدها معه، وشاب موهوب يقلد الأصوات، ويعمل مسعفا، ويراها فتاة أحلامه، وممثل تجاوز سن الشباب، تعلق بها عندما اختيرت ليلى لبطولة فيلم سينمائى.
يمكن أن تقع الحكاية بعيدا عن الحروب، ولكن المأساة تظهر مثل شبح سواء فى اضطرار الحبيب القديم للهرب والهجرة، أو فى الموت الذى يراه الحبيب المسعف، ثم ينجو منه بأعجوبة، أو فى حكاية ليلى التى فقدت أسرتها كلها باستثناء أخ وحيد، يتأهب بدوره للهجرة.
بناء قصة ليلى مع المسعف ومع الممثل جيد، ولكن الحبيب المهاجر يظهر ويختفى، والمشكلة الأكبر هى أن مشاعر الفتاة ظلت غامضة فى مشاهد كثيرة، قبل أن تحسم أمرها فى المشهد الأخير، وهناك مشكلة أكبر هى أنها لم تختر البقاء فى الوطن، وإنما الحبيب الذى أرادته، ولو كانت تحب الشاب المهاجر، لما ترددت فى السفر.
هناك مشاهد كوميدية جيدة متناثرة، ولكن الفيلم عموما ليس من أفضل أعمال عبداللطيف عبدالحميد، الذى يقوم أيضا بدور المخرج فى أحداث الفيلم، أما العنوان فهو مأخوذ من أغنية بنفس الاسم لفيروز، مغزاها تجاوز الحب لكل الصعوبات والأشواك.
أما الفيلم الثانى، فهو بعنوان «مطر حمص»، للمخرج الشاب جود سعيد، وهو يمزج قصة حب بأحداث مدينة حمص الدامية، ثلاثة أشهر تجمع أبطال الحكاية، وسط خرائب المدينة المهدمة، وبعد اتفاق يقضى بخروج المسلحين منها.
فى هذا الفيلم مشكلة فنية واضحة، فقد تأرجح السرد بين طريقة شاعرية غير مباشرة وذكية، وأخرى مباشرة عالية الصوت، بدا الأمر أحيانا كما لو أننا أمام مزيج بين السينما النضالية السوفيتية، وأفلام السينما الإيطالية التى تلتقط تفاصيل الحرب بلمسات إنسانية وساخرة. الطريقة الشاعرية واضحة حتى فى عناوين اللوحات بين مشاهد الفيلم، والتى تستخدم دوما كلمة «المطر»، وواضحة فى قصة الحب التى تنمو بين يوسف ويارا، وفى العلاقة بين الطفلين، وهناك لمسات مرحة جيدة فى قلب المأساة.
ولكن الفيلم يمارس أيضا دورا تعبويا ــ إن جاز التعبير ــ لا اعتراض على وجود الحرب، وإنما الاعتراض على المباشرة والسذاجة والنمطية التى قدمت بها جماعة أبى عبدالله الإرهابى، واللوحة الأخيرة بأكملها مضطربة البناء، تقفز فيها الأحداث، وتنتهى مثل حلقة فى مسلسل مغامرات، بقتل زعيم الأشرار.
موقف جود سعيد السياسى واضح بالطبع فى مساندة الجيش السورى، ورفض الربيع العربى، الذى انتهى فى سوريا إلى كارثة، كما أن صراع يوسف المدرس والجندى السابق مع يارا الناشطة السياسية، ينتهى إلى إنقاذها بالحب، وهناك بالطبع إدانة الجماعات الإرهاب الدينية، التى لم تعد جرائمها موضع شك، ولكن الفيلم أشمل من أفكاره السياسية، إنه عن الإنسان السورى الذى يتحدى الموت بالغناء وبالحب، عن المطر بوصفه معادلا للحياة.
ليت الفيلم اعتمد على التفاصيل البسيطة؛ مثل ساعة حمص التى لا تسقط، ومثل البلكونة الصامدة على الرغم من سقوط السور حولها، هذه مدينة تحارب ببيوتها المهدمة التى ما زالت تحتفظ بالطعام، حتى الكلب يفتدى الطفلة، وحتى النباتات تنمو فى قلب السيارة المتوقفة.
هذه التفاصيل أفضل وأكثر تاثيرا من أى مناظرة أو معركة حربية، وإصرار أبطال الحكاية على تسجيل كل ما أخذوه من منازل حمص فى ورقة، أكثر بلاغة وجمالا من كل موقف عالى الصوت، لقد حفظ هذا الفيلم صورا لا تُنسى لحمص بعد الحرب مباشرة: مدينة مهدمة يسقيها المطر، وتحتفظ أجواؤها بصوت شابٍ يريد أن يشاهد مباريات كأس العالم، فتصرعه رصاصة غادرة، أسفل ساعة وحيدة، فى ميدان مهجور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved