الثقب الأسود يبتلع جحافل الألمان - سور برلين وأنا (10)

حسام السكرى
حسام السكرى

آخر تحديث: السبت 14 ديسمبر 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

(ذكرياتي مع برلين في مناسبة مرور ثلاثين عاما على انهيار حائطها)
عدت من بودابست لبرلين الغربية. في المطار لم أجد صديقا كان قد وعد بانتظاري. وصلت المنزل وانتظرت أن يتصل بي للاعتذار لكنه لم يفعل فهاتفته للعتاب. استمع ثم فاجأني بأننا لسنا في الأول من نوفمبر كما أعتقدت.
سافرت من المجر قبل يومين من ميعاد الطائرة! لا أصدق كيف أقنعت مسؤولي شركة الطيران بأن عدم وجود حجز لي هو خطأ من جانبهم! كم تمنيت أن أكون مقنعا في مواقف أخرى بنفس القدر الذي كنته في ذاك اليوم!

وقتها كانت أرتال السيارات المليئة بالعائلات تسد الطرق المغادرة من ألمانيا الشرقية إلى تشيكوسلوفاكيا (قبل انقسامها إلى جمهوريتي التشيك وسلوفاكيا) ومنها إلى ألمانيا الغربية عبر المجر التي كانت وقتها داخل الستار الحديدي أي ضمن منظومة الدول الاشتراكية الدائرة في فلك الاتحاد السوفييتي والتي يسمح لمواطنيها بالسفر فقط في حدود هذا الستار. الثقب الأسود الذي فتحته المجر في السور بإزالة الحواجز والأسلاك المكهربة والسماح أولا لمواطنيها بالعبور ثم لمواطني ألمانيا الشرقية لاحقا اتسع ليبتلع الآلاف يوميا.

من سخرية القدر أن يتسبب الحدث التاريخي نفسه في النتيجة وعكسها. في عام واحد وستين حصلت ألمانيا الشرقية من الاتحاد السوفييتي المهيمن آنذاك، على إذن بإقامة سور برلين لتمنع تسرب مواطنيها عندما وصل عدد الهاربين من شرق المدينة لغربها إلى ألف مواطن في اليوم. بعدها بأقل من ثلاثة عقود ستفقد كل الأسوار فاعليتها وينهار حائط برلين للسبب نفسه. عشرات الآلاف من مواطني ألمانيا الشرقية يقطعون آلاف الكيلومترات ويخترقون ثلاثة دول ليصلوا إلى دولة مجاورة كان من الممكن أن يدخلوها إذا قطعوا مسافة أمتار سيرا على الأقدام من داخل برلين الشرقية ذاتها!

خرجت لشراء بعض الحاجيات. المدينة هادئة لأن الآلاف المؤلفة الذين يخرجون من الدولة الكائنة خلف السور لم يأتوا إلى هنا. بمجرد دخولهم إلى ألمانيا الغربية كانوا يذوبون في مدنها الآخرى. ربما كان يرغب بعضهم في الذهاب إلى برلين الغربية من أجل لم شمل عائلة مقسمة. لكن هذا كان سيعني سقوطهم في قبضة السلطات الشرقية مرة أخرى. فدخولهم لبرلين الغربية من المانيا الغربية يقتضي المرور بنقاط الحدود بين المدينة وبين ألمانيا الشرقية مرتين! فالمدينة كما قلنا كان تقع بكاملها في قلب ألمانيا الشرقية.

كنا يوم الجمعة ولم يكن في برلين الغربية أية أمور غير اعتيادية، في حين أن الوضع في نهاية الشارع الذي أقطن فيه وعلى الجانب الآخر من الجدار كان على العكس تماما. كانت ألمانيا الشرقية قد وصلت إلى حائط مسدود في نفس الشهر الذي احتفل فيه بالعيد الأربعين لإنشاء الدولة. الأوضاع الاقتصادية متوترة وألمانيا الشرقية تواجه مصاعب في دفع فوائد قروضها. رئيس الدولة إيريش هونيكر الذي سيطر على مقاليد الأمور منذ عام 71 يضطر للتنازل في اليوم التالي لوصولي لزعيم اقل تشددا. "مظاهرات الاثنين" الأسبوعية التي بدأت في مدينة لايبزج منذ شهرين تنتقل لمدن أخرى.

في الرابع من نوفمبر شاهدت بثا حيا على تليفزيون ألمانيا الشرقية لأكبر مظاهرة "مستقلة" شهدتها العاصمة. تدفق نصف مليون ألماني على ميدان ألكساندر بلاتز وتوالت الخطب. لم يطالب أحد بالوحدة مع الغرب ولا بحرية السفر ولكن بإصلاح المسار الاشتراكي وتعزيز الديمقراطية وحقوق المواطن. ارتفع صفير المتظاهرين عندما خطب مسؤولون في الحزب الشيوعي. من هؤلاء كان جونتر شابوفسكي مسؤول الحزب الذي لم يكن سيذكره أحد لولا ارتكابه بعدها بأيام واحدا من أشهر الأخطاء في التاريخ.
(يتبع)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved