على باريس أن تجيب عن الأسئلة

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 15 يناير 2015 - 8:09 ص بتوقيت القاهرة

دعنا نتفحّص ما جرى فى باريس بمنطق هادئ وتوازن حقوقى، وهذا ما تحتاج باريس أن تفعله أيضا.

فأولا، بالنسبة للحدث، فإن قتل رسّامى صحيفة «شارلى إيبدو» الفرنسية كان جريمة نكراء وهمجية بشعة فى ممارسة الإختلاف مع الآخرين، لا تقرّها شرائع السّماء ولا القوانين الإنسانية، إضافة إلى أنها حماقة سياسية مشبوهة الأهداف.

لكن الموضوع يجب أن لا ينتهى عند اللُّوم والشجب والاستنكار. إنه موضوع له جوانب متعددة تحتاج إلى أن تطرح بصراحة تامة.

وثانيا، فإن تلك الصحيفة تمارس مايعرف باللغة الفرنسية (satire)، وهى كلمة تعنى الهجاء والقدح والتهكُم والسُخرية. وهذا أسلوب فى التعبير، سواء أكان بالكتابة أو الرسم أو التمثيل أو النكتة، له ماله وعليه ماعليه. فمن أجل أن تكون السُّخرية لاذعة ومؤلمة يمارس الهجّاء المتهكّم المبالغة فى التعابير الجارحة الموجعة واستعمال رذيلة الكذب والدسَّ والغمز واللّمز الحقيرين. وإذا كان الإنسان العربى يريد أن يعرف القيمة الأخلاقية الذميمة لممارسة الغمز واللمز فى ثقافتنا فيستطيع أن يراجع ماقالته النصوص القرآنية وماقاله التراث الإسلامى بشأن رذيلة الغمز واللّمز، بما فيها التعرّض لعقيدة الآخرين الدينية.

وثالثا، دعنا نراجع بعض ماقاله التراث الفكرى والأدبى الغربى نفسه بشأن مخاطر هذا الموضوع وملابساته.

فالشاعر الإيرلندى السّاخر جوناثان سويفت كتب فى أوائل القرن الثامن عشر وصفا ساخرا للهجاء بأنه نوع من المرآة التى تعكس وتكشف وجوه كل الناس الآخرين ولكنها تستثنى وجوه أصحابها.

والتراث الغربى ملىء بنقد التعابير الهجائية (satire)، إذ يجدها تعابير سلبية، كثيرا ما تكون مليئة بالكراهية وقلّة الذوق وتجريح الآخرين لأن مستعمليها لا يضعون لها حدودا لا يجب أن تتخّطاها. وهناك تاريخ أسود للكاريكاتير الغربى الذى ألصق خاصية الأنف المعكوف باليهودى والوجه الأسود ذى العيون المبحلقة البلهاء بالزُّنجى والفم المفتوح المظهر لسنُّين بارزين قبيحين للصٍّينى. ولم تسلم المرأة من بروزتها فى صور كاريكاتيرية شتّى تحطُ من قيمتها وكرامتها. أما الكاريكاتيرات المستهزأة بالعربى والمسلم فقد أصبحت أقصر طريق لترويج بيع هذه الصحيفة أو تلك فى هذه المدينة الغربية أو تلك.

وبالطبع فإن كل ذلك لا يعنى أن لا مكان للتعبير الهجائى فى الاجتماع الإنسانى، إذ كثيرا ما كان آخر المطاف للشعوب المقموعة المغلوبة على أمرها، للتعبير عن مظالمها من خلال نكتة لاذعة أو كاريكاتير، دون أن تصطدم مباشرة بالطغاة والمستبدين.

ورابعا، هناك إشكالية حريّة التعبير التى يتعلّل بها البعض لتبرير التعايش مع مبالغات وتعدّيات بعض أنواع التعبير الهجائى. سنكتفى هنا بما قاله الكاتب الأمريكى السّاخر مارك توين من أن هناك قوانين تحمى حرية الصحافة، ولكن لا توجد قوانين لها قيمة ووزن لحماية الناس من الصحافة، وأيضا بما قاله الصحفى البريطانى الساخر هانن سوافر من أن حرية الصحافة فى بريطانيا تعنى حرية طبع شتّى التعابير المنحازة والمتعصّبة من قبل أصحاب الملك والسّطوة طالما أن المعلنين فى الصحيفة لا يعترضون عليها. وأيضا بما قاله أحدهم من أن الحرية هى الحق فى أن تكون أحيانا مخطئا وليس الحق فى أن تتعمّد فعل الخطأ.

•••

وخامسا، وعلى ضوء النقاط السّابقة، هل أن التعابير الكاريكاتيرية السّاخرة الحقيرة التى أظهرت نبى الإسلام فى أوضاع أقرب إلى أن تكون جنسية مبتذلة قاصدة جرح كرامته وعفَّته وبالتالى رسالته.. هل كان ذلك تصُّرفا حكيما يندرج فى خانة حرية التعبير المتوازن الرّاغب فى أصلاح الحياة البشرية، أم أنه كان حماقة صحفية لا تعطى أى وزن ولاحساسية تجاه بليون وستمائة مليون من البشر المسلمين؟

بعد أن يهدأ صخب هستيريا المظاهرات المليونية فى باريس وبعد أنّ يبتعد عن المسرح انتهازيو السياسة فى الغرب وتابعوهم من المولولين فى أرض العرب والإسلام، سيحتاج العقلاء والموضوعيٍّين فى فرنسا أن يجيبوا عن ذلك السؤال. وبالنسبة لى فإننى واثق بأنهم سيفعلون، فتراثهم الفكرى المبهر شاهد على ذلك.

وسادسا، هناك أسئلة تتعلق بالدور الذى تلعبه بعض الاستخبارات الغربية والصهيونية بالنسبة لاستعمال مجانين الجهاد التكفيريين من أجل افتعال حوادث مفجعة مثيرة للسُّخط والغضب والكراهية من مثل ماحدث فى باريس مؤخرا وماحدث سابقا فى نيويورك فى سبتمبر 2001، بل وما يحدث فى أرض العرب من حوادث حقيرة تهدف إلى إثارة الانشقاقات الطائفية والعرقية والقبلية والسياسية.

•••

وسابعا، أن تسير الملايين فى الشوارع وتنشغل الوسائل الإعلامية الغربية ليل نهار احتجاجا واستنكارا وحزنا لموت سبعة عشر فرنسيا فهذا تعبير مبهر عن التضامن البشرى ضدُ الإجرام والبربرية، ولكن أن يّقتل الجيش الصهيونى أكثر من ألفين من أطفال ونساء وشيوخ وشباب غزُّة المحاصرة المنهكة، وأن يمارس الاغتيال الفاجر يوميا، وأن يموت المئات يوميا فى أرض العرب والمسلمين على يد بعض أجهزة الأمن العربية وعلى يد جماعات إرهابية تدرّبها وتسلّحها وتموُّلها بعض دوائر الغرب الاستخباراتية، ثم لا يكاد يرى الإنسان أكثر من رد فعل رمزى فى شوارع ومنابر إعلام الغرب، فانُ ذلك تعبير عن غياب محزن للتضامن البشرى وسقوط مخزٍ لحمل مسئولية الشعارات الإنسانية التى ادّعى الغرب بأن موجات أنواره الحضارية جاءت عبر ثلاثة قرون لنشرها وترسيخها من أجل الإنسانية كلُها.

مظاهرات باريس وعواصم الغرب المبهرة ذكَّرتنا مرة أخرى بأن الرأى العام الغربى المضّلل، مع الأسف معنى بحرية وسلام وتقدُّم مجتمعاته. أمُا حرية وسلام وأمان وتقدُّم المجتمعات الأخرى، التى تتآمر عليها جيوش ودوائر حكم وجحافل استخبارات بلدانه فليس هذا من شأنه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved