أسبوع ساخن ونهايته حافلة بالأسئلة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 15 يناير 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

خلال الأسبوع المنصرم وقف العالم برهة على حافة حرب، طرفاها لو نشبت لكانا دولة عظمى قادمة إلى الإقليم من القمة ودولة متوسطة تنتمى لنظام إقليمى ناشئ وتقيم فيه. لم تكن البرهة هى الأخطر فى تاريخ الأزمات العالمية الشهيرة؛ إذ سبقتها «برهات» أخرى أخطر، أذكر منها على سبيل المثال البرهة التى أعقبت إطلاق الاتحاد السوفييتى إنذاره إلى دول العدوان الثلاثى بوقف تقدمهم، لاحتلال قناة السويس فى حرب عام 1956، وكانت بين الدول المعتدية دولتان من الدول المصنفة، دول عظمى أو كبرى ضد دولة متوسطة.
أظن أن المؤرخين سوف يتوقفون كثيرا للمقارنة بين الأزمتين، إحداهما أطلقت عصرا جديدا وتوازنا جديدا للقوة الدولية ونهضة استقلال عمت قارتى آسيا وإفريقيا وهزت أهم أعمدة الهيمنة الغربية فى أمريكا اللاتينية، القارة الثالثة. انتهت حرب السويس ببدء خروج الإمبراطورية البريطانية العجوز من مستعمراتها وتنازلها عن موقع الدولة العظمى، وهو الموقع الذى احتلته وبدون انقطاع على امتداد ما يزيد وقتها عن ثلاثة قرون. لم نسمع لبريطانيا بعدها صوتا نافذا وإن ظل لأكثر من قرن أمينا على سمعة المملكة المتحدة، تابعا أمينا للولايات المتحدة.
هذا عن الأزمة الأولى، أما الثانية، ورغم أننا لا نزال فى بدايات التعرف على تداعياتها، فلست من الذين ينتظرون حلحلة فورية أو بعد عقود فى أوضاع الإقليم العسكرية والسياسية والاقتصادية نتيجة لها. أقول هذا وفى مخيلتى أسئلة عديدة وقناعات قديمة وحديثة قيدت حريتى.
***
لازمتنى هذه الأسئلة منذ بداية الأزمة الناتجة عن اغتيال القائد سليمانى، وللأسف بقيت لا تغادر منتظرة إجابات شافية لا تأتى. من هذه الأسئلة سؤال اكتشفت أنه باق أيضا مع متخصصين كثيرين حتى بعد انحسار الأزمة. لم أفهم، ومازلت عاجزا عن فهم، مواقف مستشارين وخبراء وعلماء من شخص فى البيت الأبيض، غير كامل الأهلية العقلية والأخلاقية من وجهة نظر أغلبهم، يملك وحده حق زج بلاده فى حرب. يطيعونه وينفذون شطحاته ويرددون تغريداته. كان الرد أحيانا مفحما. وأين هى الدولة فى عالمنا وفى هذا العصر أو غيره من العصور التى لا يملك الإمبراطور فيها أو السلطان أو الرئيس حق إعلان الحرب والتصرف فى مقادير شعبه كيفما شاء. هذا الحاكم أو غيره غير ملزم باستشارة أهل الخبرة والإنصات بكل الاهتمام لمصادر المعلومات الدقيقة والوافية والاطمئنان إلى ولاء الحلفاء وأهل البلاد. إذا فعل فخير وبركة وإذا لم يفعل فهو مبعوث العناية الإلهية ينقل غضبها أو نعمها على حد سواء.
يشاء حظ أهل الإقليم، مسلمين من الشيعة والسنة ومسيحيين ودروز وملايين آخرين يدينون بما لا يقل عن عشرين عقيدة، أن يقود جانب فى الأزمة ويتسبب فيه رئيس فى البيت الأبيض لا يقول كلمة صدق إلا نادرا فما بالنا والحال حال حرب وفتك وقتل ودمار. بالفعل كذب الرجل متطوعا حين صرح، لا أذكر مغردا أم ناطقا، بأنه أصدر الأمر باغتيال القائد الإيرانى الذى يمكن أن يكون بمثابة وفى مكانة الرجل الثانى فى النظام الإيرانى لأن المعلومات التى فى حوزته، أى فى حوزة الرئيس، تؤكد أن القائد كان يخطط للهجوم على أربع سفارات أمريكية وقتل من فيها من الأمريكيين. لم تمر ساعات إلا وكان مسئولون أمريكيون يتبرأون من العلم المسبق بهذه المعلومات الخطيرة. بين هؤلاء أو فى صدارتهم كان وزير الدفاع الأمريكى، وبعده بساعات خرج وزير الخارجية يؤكدها فى إشارة واضحة إلى حال تخبط داخل شريحة إعداد القرار فى واشنطن.
سألت وما زال السؤال بغير جواب يرضينى كإنسان. هؤلاء المئات من نواب وشيوخ وموظفى محاسبة ورقابة وجنرالات كل منهم مسئول عن سلامة ضباطه وجنوده، هؤلاء مع عشرات المستشارين الذين يقبضون مرتبات ضخمة ليكونوا فى خدمة شعب آمن ومطمئن ودافع ضرائب بانتظام وعن اقتناع، كلهم لم يتمردوا على رئيس كذب فى لحظة تستحق الصدق والوطنية والإيمان بالشعب والدستور. نشبت الأزمة ووقعت الواقعة ووقف العالم على حافة حرب ولم يتحرك أو يعترض إلا بعد فوات الأوان حليف فى أوروبا كان يفترض أنه تلقى معلومات ونسق لدور يقوم به فى الحرب.
هنا أعود إلى سؤال فرعى لم أسأله إلا لاحقا. سألت ماذا وراء هذا الصمت الرهيب من جانب صناع القرار والدفاع فى العواصم الأوروبية؟ ولماذا تأخرت روسيا، الدولة الكبرى الأخرى، فى التدخل أو التعبير عن رأيها. الآن وقد صار الروس متمكنين ومتنفذين فى عديد المواقع فى الشرق الأوسط ألم يكن جائزا وفى أعناقهم، وحدهم كما يبدو، أمن وسلامة شعوب وحكومات عربية، أن يغضبوا لما فعله رئيس فى البيت الأبيض؟ أم، وهذا نسمعه كثيرا، يوجد بكثرة ما يعزز الشكوك فى علاقة الرئيسين ببعضهما البعض. هل هناك ما يخفيانه عن قادة أمريكا العسكريين وعن خبرائها فى شئون الشرق الأوسط؟ أوشكت حرب لأن تنشب على حدود جوار روسيا ولم تتحرك موسكو أو يصدر عنها ما ينم عن قلق. هل تلقت هى الأخرى من طرفى الأزمة ما يدعوها إلى عدم القلق؟
صمت روسيا يثير التساؤل بينما صمت الصين لا يثير شيئا. هذا صحيح، فالصين لم تسع لملء فراغ بعد آخر فى أعقاب انسحاب أمريكا من موقع بعد آخر فى الشرق الأوسط. تابعت بشغف مراحل دخول الصين إلى الشرق الأوسط. لم تنتهز الصين فرصة حرب أهلية أو «لوثة» عسكرية أمريكية لتقفز بالسرعة الممكنة فتضع قدما فى هذه الدولة أو تلك. إنما دخلت بهدوء وبطء لازماها منذ قررت الخروج إلى العالم حسب نصيحة الرئيس الراحل دينج تشاو بنج ووصيته. سمعت خبيرا يقول: «سوف يخرج الأمريكى من الشرق الأوسط عاجلا وليس آجلا مغضوبا عليه ويبقى الروسى مهيمنا ومحاطا بالشك والنفور القومى وتهمة دعم القمع والاستبداد وتشجيع الاتوقراطيات الفاسدة، وفى النهاية تسقط الثمرة ناضجة ورخيصة التكلفة فى حجر الصينى القادم فى هدوء والمتحرك ببطء والقابع منتظرا فى صمت».
***
نشبت أزمة اختار طرف فيها بغداد، وما زالت حسب علم غالبية الشعوب العربية عاصمة عربية لدولة عربية، اختارها ليقع فيها الانفجار الأول ثم عاد الطرف الثانى فى الأزمة فاختارها موقعا للرد على الطرف الأول. لم تجتمع الجامعة العربية. لم يرتفع صوت فى كل الأنحاء العربية يدعو للانتباه أو الاستعداد أو حتى مجرد التدبر. رفضوا، وبغضب، الإجابة عن أسئلة تطوع بها زملاء من جيل عروبة وقومية ومقاومة. تطوعت من جانبى بإجابة يلخصها سؤال أعم وأشمل «الأمم تنتهى مرة واحدة وأمتنا تنتهى مرات عديدة». لماذا؟».
أعجب لطرف فى الأزمة يعلم أنها ستقع ولم يستعد بما يلزم من حب الناس. أنا ولم أملك من المعلومات إلا ما يملكه عامة المراقبين العرب توقعت نشوب أزمة بين الطرفين فالأحوال الداخلية فى كل منهما كانت تدفع فى هذا الاتجاه، ولم أبخل بالتحذير المناسب والدعوة إلى الاستعداد لمواجهة العواقب. أعود إلى سؤال سألته قبيل نشوب الأزمة وفى أعقابها، سألت لماذا سمح المسئولون الإيرانيون بانحدار شعبية حزب الله فى لبنان وقوات الحشد فى العراق فى وقت التحضير لنشوب أزمة أو لتفاديها. كيف ومن اتخذ قرار الالتحام فى البلدين العربيين بقوى الفساد وأنصار ما تسمونها قوى الاستكبار ضد شعبين مطحونين ومستضعفين. مرة أخرى نتأكد من أن رفع شعار تحرير فلسطين لم يعد فى نظر الشعوب العربية المنهكة مبررا كافيا للاستمرار فى ارتكاب نفس الخطأ. سألت السؤال فى لبنان وسألته فى مقابلات واتصالات مع عراقيين من أجيال وطوائف مختلفة ولم أتلق جوابا شافيا أو حتى مهدئا.
سؤال آخر، أما وقد هدأت الانفعالات أسألكم أيها المسئولون فى كلا البلدين طرفى الأزمة لماذا لا تتفقوا على هدنة تعالجون خلالها حال التدنى الرهيب فى كفاءة أجهزة صنع قرار اهتم بإشعال أزمة وقرار اهتم بتهبيطها، حال كشفته تطورات الأزمة الناتجة عن اغتيال القائد سليمانى وتؤكدها عواقبها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved