من يريد الحب لا يهرب من ذاته

هنا أبوالغار
هنا أبوالغار

آخر تحديث: الجمعة 15 يناير 2021 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

زادت نسبة الأمراض النفسية فى عصرنا الحديث بشكل غير مسبوق، وكان لمرض الكورونا تأثير سلبى خطير على صحة الفرد والمجتمع بما خلقه من خوف جماعى من عدوٍ مجهول، فنسبة مرضى الاكتئاب والتوتر (depression, anxiety) تعدت 30% من سكان العالم. وهو يختلف عن الحزن والخوف الممنطق فى أنه يؤثر على قدرة الإنسان على العمل والإنتاج والحياة الاجتماعية، ويولد أمراضا عضوية من سكر وضغط وأمراض مناعة وسرطان وحساسية، ويؤدى إلى الوفاة إذا لم يشخص ويعالج، ويكفى أن نعرف أن الانتحار ثانى سبب للوفاة بعد الحوادث فى الفئة العمرية من 15 إلى 30 عاما فى مصر والعالم.. بالطبع هذه الأمراض مثل غيرها لها درجات والمريض يحتاج إلى علاج يتراوح ما بين جلسات علاج نفسى وما بين دواء يضبط اضطراب كيميائى فى المخ يصاحب هذه الأمراض. وكأى مرض فقد أعطتنا الطبيعة جهازا مناعيا يحمينا ويساعدنا على الشفاء بشكل تلقائى إذا أصبنا. وما يلى محاولة لفتح نافذة على إحدى هذه الأدوات التى ترتكز على علم جذوره ضاربة فى تاريخ الإنسانية عابرة للأيديولوجيات نابعة من بحث الفرد عبر التاريخ عن معنى للحياة منذ الولادة حتى الوفاة، فرحلة البحث عن الإجابة فريدة لكلٍ منا، تثرينا وتطمئننا وتبنى أوتادا قوية لشخصيتنا تجعلنا أكثر قدرة على مواجهة هجمات الاكتئاب والخوف والتوتر التى أصبحت هى «الجائحة المرضية» الأكبر والأكثر استمرارية عن الكورونا.
***
بدأت الحياة ببروتونات واليكترونات تلف حول نفسها فى توازن عبقرى سواه الخالق تصنع خلية ثم ولد من هذا التوازن كل الحياة على كوكبنا. فخلايانا وأنسجتنا وأعضاؤنا كلها تعمل فى توازن مبهر، نعيش فى طبيعة التوازن فيها بين المخلوقات أساسا لاستمرارنا (بشرا، حيوانات، ميكروبات، نباتا، بحارا، رياحا، صحراء، غلافا جويا...) كلنا فى توازن دقيق، أى اختلال فيه ينتج عنه تعديل ذاتى يصلح هذا التوازن ويعيده بقوة، وإذا لزم الأمر بقسوة، فالأعاصير والهزات الأرضية والأوبئة مثل الكورونا كلها ردود أفعال الطبيعة لإعادة التوازن بين المخلوقات على ظهر الكوكب.
انعكس هذا على مثلث تكويننا: «الجسد» و«العقل» و«الروح»، كلٌ منهم أساسى للحياة كما نعرفها على الأرض، وإدراكنا لهذه الحقيقة يحل إشكاليتين: أولاهما الانتباه إلى أهمية التوازن بينهم وأننا نعيش اختلالا فى عالمنا الحديث؛ حيث لم تعد حياتنا اليومية تقدم لنا بيئة طبيعية لتغذية كلٍ منهم بالتساوى، فنحن لا نتحرك ولا نأكل بشكل صحى، ونستخدم عقولنا بشكل سريع ومكثف فنقوم بعمل أكثر من نشاط ذهنى فى آن واحد، وتقلصت لحظات الروحانية فى يومنا لتنحصر فى عبادات روتينية لا نعطيها العمق ولا التركيز الكافى لنرتكز عليها ولتساعدنا على التحرر من الخوف والقلق، فلا نحادث أنفسنا ولا أرواحنا ولا نتواصل معها. يقول الحلاج فى الحب الإلهى: «كتبت ولم أكتب إليك وإنما، كتبت إلى روحى بغير كتاب، ذلك أن الروح لا فرق بينها، وبين محبيها بفصل خطاب»، فالقلوب سكن الأرواح وأرواحنا من روح الله عز وجل، فما علينا سوى أن نلمس أرواحنا ونغذيها كما نغذى أجسادنا وعقولنا حتى نطمئن ونرضى ونتحصن من الخوف. الإشكالية الثانية التى تساعدنا على فكها معرفتنا بمثلث «العقل والروح والجسد» هى فكرة الخوف من الموت وارتباطه بالفناء، وهو أمر شغل الإنسان على مر الزمان.
***
هناك مسارات عصبية تصل بين عقل الإنسان وقلبه؛ فالصحة البدنية والنفسية مترابطة وكلاهما يؤثر على الآخر، ومساحة الروحانية فى حياة الفرد ثبت أنها تؤثر بشكل إيجابى على صفاء ذهنه وشغفه وطاقته للعطاء. «عقلنا» هو الجزء من تكويننا الأقرب إلينا، فنحن نستخدمه طوال يومنا ولا أحد منا يتوقف عن التفكير الواعى ونحن مستيقظون أو اللا وعى أثناء نومنا، وهو مصدر قوتنا وتفوقنا على باقى كائنات العالم. وإذا ترك بدون رابط يكون مصدرا لألم وحيرة وتوتر خاصة إذا تسارعت الأفكار دون منطق، وهو ما يحدث عندما نوضع تحت ضغوط نفسية أو عصبية. تغذيته هامة لتركيزنا وبصيرتنا وقدرتنا على الحفاظ على علاقتنا مع الغير، فغذاء العقل يكون بأنشطة تحفز التفكير خارج الأطر المألوفة لنا بشرط أن يكون هذا النشاط ممتعا لنا إما بكتاب أو فيلم تسجيلى أو السفر، وألا يفرض علينا بحكم تخصصنا، فإن لم نغذِه بحب وضغطنا عليه فقط بالعمل والدراسة والتخطيط للمستقبل فإننا ندفعه للاحتراق فيخرج عن السيطرة ويعمل بسرعة وعشوائية تدخلنا فى نفق «القلق والتوتر».
***
لكى نخلق توازنا يمنع العقل من أن يرمح بلا رابط فعلينا أن نغذى الجسد بنفس الاهتمام والحب فننخرط فى الحركة إما برياضة تسعدنا أو بأعمال يدوية تجذبنا (تريكو، حياكة، نجارة، إصلاح جهاز كهربائى، إصلاح سيارة، أعمال منزلية من نظافة وطبخ...) كل هذه الأشغال وغيرها تقوى أجسادنا وتجعلنا نتواصل مع كل جزء فيه فنعطيه من تركيزنا فتهدئ سرعة الأفكار المتلاحقة فى أذهاننا. الضلع الثالث فى مثلث تكويننا هو الروح وتغذيتها بما نحبه ونستمتع به مما يساعدنا على اكتشاف أنفسنا وفهمها، ثم يجعل تواصلنا مع الآخرين أعمق بشكل فيه تلامس لأرواحنا يطمئننا ويؤنسنا، إليكم أمثلة لكن لكلٍ منا ما يجذبه وما هو أقرب إلى روحه؛ اليوجا تقوى الجسد والنفس وتصفى الذهن فى آنٍ واحد.. التأمل (meditation) حيث يجلس الشخص فى وضع مريح لكنه منتبه ويركز فى شيء بعينه قد يكون الشهيق والزفير أو يكون صورة فى ذهنه ويدرب ذهنه على السكون.. الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية أو العربية التى تدعو إلى التركيز والطرب.. التسبيح حيث يردد الشخص كلمة أو جملة ويركز فى معناها مرات ومرات قد يصاحب هذا حركة متكررة على السبحة أو هز الجسد إلى الإمام والخلف بشكل آلى وهو أمر موجود فى معظم الأديان.. وهناك بالطبع مجالس إنشاد مثل الحضرة الصوفية أو الترانيم المسيحية، كما أن هناك ممارسات شعبية بعيدة عن المعتقدات الدينية يستخدم فيها آلات الإيقاع وهى موجودة فى ثقافات قديمة كثيرة فى أفريقيا وآسيا وتشبه كثيرا الزار فى الثقافة المصرية... كل هذه الممارسات سواء كانت دينية أو ثقافة شعبية فيها حركة للجسد وصفاء للذهن وإحساس بالراحة والسلام النفسى بعد الانتهاء منها، وكثير ما يخرج منها الفرد أكثر تواصلا مع ذاته ومع من شاركوه هذا الطقس سواء كان دينيا أو ثقافيا أو شعبيا.
فى نهاية الأمر من المهم أن ندرك أهمية «فهمنا وقبولنا وحبنا لأنفسنا، لمميزاتنا وعيوبنا وتفردنا، وأنها كلها سبب فى كوننا من نحن»، وأن نُثمِن أننا جميعا «جزء من الكل»، فكل منا مهم بمفرده لكننا معا نصنع العالم كما هو، أن نتذكر أن «التوازن بداخلنا هو جزء من توازن الكون»، وبدون اهتمامنا بمثلث تكويننا نمرض ويمرض معنا المجتمع، وأن استثمارنا فى أرواحنا ونحن فى الدنيا هو ما يجعل الموت الجزء الأكثر عبقرية فى الحياة، وأننا خلال حياتنا لدينا فرصة رائعة لنبقى دائما أبدا كأرواح داخل قلوب أحبتنا وعقولهم، عابرين للمكان والزمان، قادرين على التواصل معهم عبر أرواحنا التى لا تفنى عندما تتركنا أجسادنا المنهكة الجاهزة لتغيير ردائها أما أرواحنا فتبقى، ولذلك فالروح تستحق نفس الوقت والاهتمام فى الرعاية التى نعطيها لأجسادنا وعقولنا، وما أجمل من الحب المطلق غذاءً للروح، فأحبوا كثيرا حتى تجدوا أنفسكم. من أقوال جلال الدين الرومى، هذا الفيلسوف الشاعر عالم الشريعة الصوفى: «منْ يريدُ القمر لا يتجنَّب اللّيل، من يرغبُ فى الوَرد لا يخْشى أشْواكه، ومَن يسعى إِلى الحبّ لا يهرب من ذاتِه».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved