غراب فى الأربعين

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 15 يناير 2022 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

 

ديسمبر أدار ظهره ليناير وتجلت مظاهر برد الشتاء. بدا المنتجع السياحى الذى يطل على ساحل البحر وكأنه مدينة للأشباح، لا يوجد به سوى قلة نادرة من النزلاء. الشمس تظهر وتختفى، والهواء المنعش يعبق الجو برائحة ملح البحر والعشب الأخضر الذى تم تشذيبه للتو بواسطة ماكينة كسرت حصار الصمت، هى ونعيق الغربان التى استعمرت المكان. اجتمعت الطيور السوداء الفاحمة على الأشجار العالية تلعب بورودها وثمارها أحيانا، وتسعى وراء رزقها فى صخب. ينتقلون من أعلى الصخرة الكبيرة البيضاء إلى الشماسى المغلقة التى لا يجلس تحتها أحد، ومنها إلى الطاولات، على أمل سرقة لقمة صغيرة من أحد الزبائن أو قطعة بيتزا، فالغربان تأكل تقريبا كل شيء.

وقف وسط هذه الكائنات التى تتأقلم بسهولة على البيئات والأجواء المختلفة، هم زملاؤه فى النوع والسكن، فى اللعب والقنص، إلا أنه الأكبر سنا بلا منازع، فمن النادر أن يصل غراب إلى الأربعين، إذ لا تتعدى أعمار الغربان عادة الخمسة عشر عاما أو العشرين على الأكثر. ضعف نظره بشكل واضح، يكاد يرتطم بالبشر وهو يقلع قبل أن يحلِّق فى الجو، ريش الحواف يلامس رأس أحدهم، ثم ينطلق إلى حال سبيله. صار عجوزا، يصل وزنه إلى الكيلوجرام تقريبا وطوله حوالى ستين سنتيمترا. ريشات عنقه تقف حين يصرخ وحيدا. ترك الأهل مثل غيره من أبناء السلالة وهو فى سن المراهقة ليختلط بالرفاق والأصحاب، ثم وقع على شريكة حياته وظل معها حتى فرقهما الموت، فلم يكن فى وسعها أن تسجل الرقم القياسى نفسه وتعيش طويلا مثله.
• • •
ارتحل بعد فراقهما من الجبال ليستقر على شاطئ البحر الأحمر فى هذا المنتجع السياحى اللطيف كأى متقاعد فى فترة نقاهة. المكان مناسب، وهو لم يعد بحاجة إلى التحليق عاليا واصطياد الجيف والحيوانات الميتة، بل اكتفى بالحشرات الصغيرة فى حديقة المنتجع والآفات التى يجدها بين المزروعات وبقايا الطعام التى يلتقطها من هنا ومن هناك. لم يعد يقوى على تقليد صوت الطيور والحيوانات الأخرى مثل الثعالب والذئاب ليجذبها إلى جسم ذبيحة لن يستطيع افتراسها بمفرده، فهو بحاجة إلى من يبدأ بالتمهيد وفتح الجثة ثم يأتى دوره هو بعدما يشبع الآخرون، فيتغذى على ما يحب بذكائه المعهود.
طائر نهاز للفرص، يهوى السرقة، لا مشكلة لديه فى ذلك، لكنه أيضا مخلص ومتعاطف، يبادر بالتصالح مع خصومه حتى بعد هزيمتهم، بخلاف سمعته الشيطانية التى ارتبطت بالشؤم والفأل السيئ. ذكاؤه لا يقل عن الشمبانزى والدرفيل، بل يعادل ذكاء طفل ما بين سن الثانية والخامسة. يعتمد الخديعة والاحتيال أحيانا للحصول على ما يريد، فطالما أخفى غنيمته فى مكان، ثم وضعها فى معقل آخر للتمويه، أو استخدم لغة الإشارة للتواصل مع رفاقه غير مكتفٍ بالصراخ والنعيق، لكى يلفت نظرهم بمنقاره مثلا إلى هدف قد يفيد.
• • •
على مدار أربعين سنة أخذ يراقب الحياة من منظور عين الطائر، من أعلى إلى أسفل. راح يراقب المشاريع المعمارية والعمرانية الضخمة. رأى الطبيعة تتغير من حوله. جبل الحريم بالغردقة الذى سُمى كذلك لأن النساء كن يذهبن إليه للاستحمام فلا يدخله أحد غيرهن حتى ثمانينيات القرن الفائت استحوذت عليه الشركات السياحية وفيلات الميسورين، أما جبل أم قمر الذى عاش فيه فترة ليست بالقصيرة تم شقه مؤخرا لإنشاء وصلة تربط طريق القاهرة ــ إسماعيلية بطريق القاهرة ــ السويس، وصار مكتوبا على اللافتة المرورية «وصلة أم قمر». لا يعرف تفسيرا واضحا لانتساب العديد من جبال المنطقة إلى النساء: أم قمر وأم خشيب (شمال غرب سيناء) وجبل البنات (بالقرب من وادى فيران). تتعدد الروايات مثلا حول تسمية هذا الأخير، ومن بينها أن بعض بنات البادية فررن من أهلهن للتخلص من الزواج بمن لم يحببن ولجأن إلى هذا الجبل وعندما طاردوهن ربطن ضفائرهن بعضها ببعض ورمين بأنفسهن إلى الوادى دفاعا عن حريتهن، وهناك حكاية أخرى تتعلق براهبات احتمين بالجبل فى ظروف صعبة... ضاع هو مع تعدد الروايات، إلا أنه كان لسنوات ممن احتموا بهذه الجبال. كانت هذه هى منطقته، دون أن يدرى أحد من أين جاء أهله، هل هاجروا من أوروبا إلى آسيا، تحديدا إلى العراق وسورية عبر البلقان واليونان؟ أم انتموا دوما إلى أفريقيا؟ هل عاش بعض منهم فى الغابات؟ لا يعرف. كل ما يعرفه هو مساره الشخصى واختياره أن يستقر فى المنتجع السياحى بالقرب من البحر هربا من الحزن على موت شريكة حياته ومن أصوات التفجيرات فى المحاجر المتاخمة. يريد أن يعيش فى هدوء دون صراعات كبرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved