«الجمعية السرية للمواطنين».. المهمشون فى الأرض!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الأحد 16 يناير 2022 - 12:02 م بتوقيت القاهرة

 

ــ 1 ــ
لعل هذه الرواية من أفضل نماذج السرد الاجتماعى السياسى، فى السنوات الأخيرة، ذلك أنها تدفع بالمهمشين، ليكونوا أبطالا، رغم أنهم أبعد ما يكونون عن المثالية، ولكنهم ضحايا ظروف اجتماعية وسياسية شاقة، جعلت الفقراء أسوأ حالا، وصنعت من المزيفين نجوما لامعة.

ــ 2 ــ
«الجمعية السرية للمواطنين» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، لمؤلفها أشرف العشماوى، من أفضل رواياته شكلا وبناء وفكرا ومضمونا، وتحقق نجاحاتٍ كثيرة فى عدة اتجاهات:
فهى ترسم، أولا، شخصيات مهمشة فريدة مكتملة الملامح، نتابع أحوالها وظروفها فى مساحةٍ زمنية كبيرة، من منتصف السبعينيات فى عصر الرئيس السادات، إلى نهاية عصر مبارك، وفى منطقة عزبة الوالدة فى حلوان، تلك المنطقة التى أقيم فيها قصر والدة الخديو إسماعيل بحدائقه الواسعة، ثم تحولت إلى منطقة عشوائية مهمشة، لا علاقة لها بتاريخها القديم.
الشخصيات اختيرت بعناية لتعبِر عن تحولاتٍ عنفية وحادة، ومن خلال مهنٍ غير مألوفة: فنان تشكيلى يتحول إلى مزور لوحات ونقود، وبطل فى حرب أكتوبر يتحول إلى مرشد وموزع للمخدرات، ومدرس موسيقى يصبح عامل مجارى، ومسمم للكلاب يصبح متاجرا بلحوم الكلاب، وعرضحالجى يصبح محاميا، وممرض يصبح طبيبا، وساعى بريد يتحول إلى صحفى، وعامل نظافة يتحول إلى شاهد زور محترف، وكومبارس سينما يُستأجر لأداء دور القريب المحترم والثرى فى أفراح الغلابة، وفنان تشكيلى ينتحل اللوحات يُرشَح لمنصب وزير.
فوضى اجتماعية عارمة أقرب إلى العبث الذى نراه فى الواقع، ونرصده عبر الشخصيات، وليس بعيدا عنها، الحكاية عن واقع عبثى، وهذا منطق الرواية كلها.

ــ 3 ــ
الرواية، ثانيا، تضع شخصياتها الكثيرة فى قلب ظروف تجبرها على أن تتحايل على العيش بطرقٍ ملتوية، فهذا هو السائد والمتاح، وفكرة الزيف والتزييف محورية فى النص، سواء على مستوى تزييف فنان مثل معتوق رفاعى للوحة زهرة الخشخاش الشهيرة، أو تقديم رسومات لفنان آخر هو غريب أبو إسماعيل، ليضع عليها اسمه، أو فى تزييف معتوق للنقود على نطاق العزبة، وتكوين جميعة سرية لمساعدة الغلابة بهذه النقود، أو فى تزييف المحررات الرسمية فى دولة الأوراق، أو فى الانتخابات المزورة، التزييف تيمة أساسية، من أعلى إلى أسفل، وبالعكس، الغلابة يمارسونه أيضا، والرواية لا تبرر ذلك ولا تدافع عنه، ولكنها تفسر الظروف التى تدفعهم إلى أن يكونوا جزءا من زمن الفالصو.
تختبر الرواية، ثالثا، تيمات أخرى بذكاء، وتوظفها فى إطار النص، الجنون مثلا عنوان أساسى فى الحكاية، ليس لأن معتوق رفاعى يزج به فى مستشفى الأمراض العقلية، ولكن لأن ما يحدث خارج المستشفى من فوضى هو الجنون بعينه، ولذلك سيخرج معتوق من المستشفى بحلولٍ مجنونة تتسق مع هذه الفوضى المسكوت عنها، هو أصلا دخل المستشفى لأنه أراد أن يكشف زيف لوحة الخشخاش العائدة للمتحف، وكأن المجتمع لم يعد يتقبل إلا كل ما هو زائف، فقرر معتوق أن يتعامل مع المجتمع بنفس الطريقة.

ــ 4 ــ
العزبة فى النص ليست هى فقط عزبة الوالدة، ولكنها الوطن الذى صار عزبة يتحكم فيها أفراد بعينهم، ووفق نظرية ترك الغلابة يعيشون بطريقتهم، ووضعهم فى علبة كبريت معا، ولكن عند أى خروج عن النص يجب حرقهم فورا. منطق العزبة يكرس سيطرة طبقية شاملة، تراقب وتعاقب، تتيح اللعب فى حدود، وتتدخل عند اللزوم، وقد تبلورت هذه النظرية بشكل واضح فى زمن مبارك، وأتاحت له أن يحكم لمدة 30 عاما، والرواية بانطلاقها من الخاص إلى العام، ومن عزبة الوالدة إلى عزبة الوطن، تعيد الفوضى إلى أصلها السياسى، وتجعل من الفساد نتيجة لفشل السياسة، وليس العكس، وتفرق بوضوح بين فساد الثراء والسلطة، وبين فساد الغلابة، الذى يبدو كما لو كان دفاعا عن حقهم فى الحياة، إنه حيلتهم البائسة والمحدودة للنجاة من الطوفان.
فى مقابل منطق العزبة، يخترع معتوق منطق الجمعية، وفكرة الجمعية هنا لها أيضا معنى مزدوج: التجمع أو الاتحاد تحت فكرة معينة، و«الجمعية» بمعنى نظام التكافل الاجتماعى وجمع النقود الذى اخترعه الغلابة، والإدارة فى الجمعية ديمقراطية وبالتصويت، إنها العالم الموازى لمنطق العزبة، رغم أنها تدار عبر النقود المزيفة؛ لأنك لا يمكن أن تعمل فى الفراغ، والزمن بأكمله يقوم على الفالصو، والمعالجة واقعية، لا تجمل الطبيعة البشرية، ولا تصنع أنماطا، وإنما تجعلنا نرى شخصياتٍ من لحم ودم، وسط حياة عشوائية، لا يحكمها قانون أو معنى.
وبينما يعيش هؤلاء على الهامش، فإن فكرة «الجمعية السرية» تدفع بهم إلى المتن، ويصبح فعل الجنون أمرا مناسبا لمجتمع أصابه الجنون، وتنتهى الرواية بفعل يقف أيضا على حافة الجنون، دون أن نعرف بالضبط مدى تحقق هذا الفعل، ولكنه يتسق مع فوضى هذه العالم الذى وصل إلى الحافة، ويتسق أيضا مع وعى الغلابة بأنهم ليسوا أحياء أصلا حتى يخافوا من الموت، وأنهم لم يعودوا يتحملون علبة الكبريت التى سجنوا فيها، طوال تلك السنوات.
معتوق الذى فقد لوحاته، مثلما فقد ابنته، وبطل الحرب الذى لا يجد كشكا فى وطنه، والذى صار مرشدا للبوليس، وتاجرا للمخدرات، ومدرسة التاريخ فى مكان بلا ذاكرة، وطالب الهندسة المهمش بسبب ديانته، يواجهون الحقيقة قبل أن يواجهوا أسياد عزبة الوالدة، ومصيرهم فى النهاية يظل غامضا ومفتوحا، مثلما كان طوال الرواية.

ــ 5 ــ
ربما تكون الملاحظة الوحيدة فى عدم دمج تاريخ العزبة فى عصر إسماعيل بشكلٍ جيد فى النص، وخصوصا أن إسماعيل لم يكن فى ذهنه الغلابة أصلا، وهو يبنى قصرا لأمه.
ولكن تظل روايةُ «الجمعية السرية للمواطنين» وثيقة اجتماعية روائية مهمة وخطيرة وجسورة، عن فشل كل سياسة، لا تهتم بالغلابة، أو بالمهمشين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved