مراجعات على خطاب ما بعد الثورة

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 15 فبراير 2011 - 11:25 ص بتوقيت القاهرة

 بعض الأفكار المتداولة فى الساحة المصرية بعد الثورة تحتاج إلى مراجعة وتصويب، لأننى أخشى أن يدفعنا الحماس إلى الوقوع فى الغلط.. وفى اللحظات الراهنة فإن الغلط مشكلة، وما ينبنى عليه مشكلة أكبر.

(1)


ثمة نكتة رائجة فى مصر تقول إن الرئيس مبارك التقى الرئيسين جمال عبدالناصر والسادات فى السماوات العلى، فسألاه: سُم أم منصَّة، فرد عليهم باقتضاب قائلا: فيس بوك، وهو كلام إذا جاز فى مقام النكتة فإنه حين يساق فى ذكر الحقيقة يصبح بحاجة إلى وقفة، ذلك أن كثيرين باتوا يعتبرون ما جرى ثورة الفيس بوك، بما يعطى انطباعا بأنه لولا تلك الأداة فى التواصل بين النشطاء، ومعها «تويتر»، لما انفجر غضب المصريين ولما قامت ثورة 25 يناير. ولا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الدور الذى لعبه الاثنان فى العملية، لكننا لا ينبغى أن نبالغ فى تقدير الدور الإلكترونى فى تقييم الثورة.

ذلك أن فيس بوك وتويتر هما ضمن أدوات وقنوات الاتصال الحديثة، التى تساهم فى النشر والبث غير المؤسسى.. بمعنى أنها لا تخضع للمعايير المهنية المتعارف عليها فى وسائل الإعلام المعروفة، وتعتمد أساسا على ما ينشره المستخدمون، وذلك أهم ما يميزها.. لكنها تظل فى نهاية المطاف مواضع تساهم فى النشر والتواصل شأنها فى ذلك شأن أى وسيلة أخرى، كالرسائل النصية للهاتف المحمول، وقنوات التلفزة وحتى الهاتف الأرضى.

أدرى أن ما نشره الوسطاء والمستخدمون العاديون عاديون على الفيس بوك وتويتر أسهم بشكل رئيسى فى إيصال كم كبير من المعلومات المهمة والصور ومواد الفيديو.. إلخ.. أدرى أيضا أن صفحة «كلنا خالد سعيد» على الفيس بوك مثلا ضمت نحو نصف مليون مستخدم وكانت تنشر كل ما له صلة بالاحتجاجات والمظاهرات المناوئة للنظام، وحتى ما ليس له صلة بقضية خالد سعيد، مما ساهم فى تشكيل وعى الكثيرين أو تحفيز آخرين للتحرك، لكن يجب الانتباه إلى أن الملايين التى خرجت فى المظاهرات المليونية فى أنحاء مصر، وهى تعلم أنها ستواجه ببطش الأمن وذخيرته وهراواته أو قد تعتقل، هذه الملايين لم تجازف بأمنها وحياتها ولم تتحرك بهذا الشكل الجماعى فى هذه الملحمة التى استمرت 18 يوما، لم يكن فيس بوك هو الذى دفعهم إلى الثورة التى تعارف كثيرون على وصفها بأنها «ثورة شباب الفيس بوك». وهى المقولة الرومانسية التى تناقلتها الألسن، والتى أزعم أنها تبخس جموع الشعب العظيم حقها.. فلا كان فيس بوك مفجر الثورة ولا كان الشباب وحده رجالها ووقودها، وإنما هى ثورة الشعب المصرى بكل فئاته العمرية وبكل أطيافه: الرجال والنساء الكبار والصغار المسلمون والأقباط الأغنياء والفقراء.. هؤلاء جميعا انتفضوا ولم يتحركوا من فراغ، وإنما حركهم شعورهم بالمهانة ودفاعهم عن كرامتهم وكبريائهم. ولم تكن رغبتهم فى التغيير ولا إدراكهم لضرورة التخلص من النظام قد تشكلا بين ليلة وضحاها. ولكن ذلك كان ثمرة الشعور الدفين بالظلم والتعبئة المضادة التى دعت إلى التمرد ورفض الاستبداد والقبح من قبل كثيرين ممن صمدوا وأصروا على تحدى الخطوط الحمراء وتجاوزها. وظل ذلك المخزون جاهزا للانفجار، وحين لمعت فى الأفق ثورة شعب تونس، وأدرك الجميع أنهم أقوى من كل المستبدين، فإن المصريين نهضوا وقرروا أن ينتزعوا حقهم بأيديهم دون انتظار مخلص أو بطل.

(2)


لقد قيل بحق إن مما يميز الثورة المصرية أن الشعب هو الذى استدعى الجيش وليس العكس، كما قيل إن الجيش فى موقفه كان وفيا للشعب، وقائما بدوره التاريخى كحارس للوطن.. ورغم أننى لا أختلف فى كلمة مما سبق، فإننى أرجو أن نضع الأمر فى نصابه الصحيح، لكى نحفظ للجيش مكانته ودوره ولا نحمله بأكثر مما يحتمل.

فى غمرة حماسنا لدور الجيش وحفاوتنا به دأب بعضنا على القول بأن الجيش ضامن للشرعية فى مصر. ولم يكن ذلك رأى نفر من المثقفين البارزين فحسب، ولكن ذلك ما قال به بعض كبار المسئولين الجدد فى البلد. واعترف بأننى لم استرح لهذه المقولة، رغم تقديرى لموقف الجيش المصرى أثناء الثورة وسعادتى بدوره الذى أسهم فى رحيل الرئيس السابق.

ذلك أننى ما إن سمعت هذا الكلام حتى قلت: هل يمكن أن يصبح الجيش ضامنا للشرعية والحقوق فى بلد كانجلترا مثلا؟ ولماذا يكون الشعب هو الضامن والحارس فى انجلترا فى حين أن الجيش هو الذى يقوم بذلك الدور فى مصر؟

لم أكن بحاجة لبذل جهد لكى أخلص إلى أن الشعب يصبح الضامن والحارس لحقوقه فى الدول الديمقراطية، التى للشعب فيها كلمة وهو الذى يعين قادته ويعزلهم، أما الدول غير الديمقراطية التى يغيب فيها الشعب ولا يسمع له فيها صوت فإن الجيش يصبح هو القوة الأكبر وهو «الكفيل» الذى يرشح لحماية الشرعية التى تتمثل فى النظام المهيمن الذى لا رأى للشعب فى اختيار رموزه أو عزلهم.

لدينا نموذجان لدور الجيش من حولنا، الأول فى تركيا الذى ظل فيها الجيش وصيا على المجتمع والسياسة لأكثر من سبعين عاما، من ثلاثينيات القرن الماضى حتى بداية القرن الجديد، حيث ظل بمثابة الحكومة الخفية التى تدير السياسة وتراقب الحكومات وتعزلها، إلى أن وصل حزب العدالة والتنمية، إلى السلطة عام 2002، وعمل على تقليص دور الجيش ووضعه فى حجمه الطبيعى ونجح فى ذلك. النموذج الثانى فى الجزائر التى لا يزال الجيش فيها صاحب القرار فى السياسة منذ الاستقلال بداية الستينيات وحتى هذه اللحظة. ورغم الدور البطولى الذى قام به الجيش فى كل من البلدين، إلا أن الهامش الديمقراطى النسبى الذى توافر لتركيا سمح بتقوية المجتمع وتعزيز عافيته بحيث تمكن فى نهاية المطاف من تحجيم دور الجيش، فى حين أن تراجع ذلك الهامش فى الجزائر أدى إلى زيادة تمكين الجيش وتعاظم دوره هناك طول الوقت.

إن السؤال الذى نحن بصدده الآن هو: هل يصبح الجيش وصيا على المجتمع كما هو الحال فى الجزائر وكما كان فى تركيا الكمالية، أم يكون إحدى مؤسسات المجتمع التى تؤدى واجبها فى تأمينه وليس الوصاية عليه؟

لقد قرأت مقالا نشرته صحيفة «ملِّليت» التركية فى (2/7) قال فيه كاتبه قدرى غورسال إن مصر فى وضعها الجديد بعد الثورة ستخرج من حكم العسكر الديكتاتورى إلى وصاية العسكر على حكم برلمانى متعدد الأحزاب، وبذلك فإنها تحتذى نموذجا تركيا متخلفا تم تجاوزه فى ظل حكم حزب العدالة والتنمية.

سيكون رأى الكاتب التركى صائبا فى حالة واحدة، هى ما إذا ما ظل سقف الحريات فى مصر منخفضا وبقى المجتمع على ضعفه وقلة حيلته، ومن ثم يصبح بحاجة إلى «الكفيل» الذى يأخذ بيده، الأمر الذى ينصب الجيش فى دور الضامن والوصى.

(3)


مثلما تقلقنى المبالغة فى دور الجيش، تثير الارتياب عندى الأولوية التى تعطى فى مرحلة الانتقال الحالية لفكرة تعديل الدستور، ولا يستيطع عاقل ــ فضلا عن دارسى القانون ــ أن يقلل من أهمية الدستور بأى حال. وأرجو أن تلاحظ فى هذا الصدد أننى أتحدث عن الأولوية التى تعطى لذلك الملف وليس مبدأ النظر فيه. يؤيد ذلك الارتياب أن الخطوة الوحيدة التى نالت قسطا من الاهتمام فى مرحلة التردد والتسويف التى سبقت تنحية الرئيس مبارك كانت فكرة تشكيل لجنة لتعديل الدستور.. التى صدر بها قرار رسمى، وبدأت عملها بالفعل، وتحددت المواد المطلوب تعديلها، وهو ما أفاض فيه السيد عمر سليمان حين تحدث عن الانجازات التى حققها استجابة لطلب المتظاهرين، والتى كان فى مقدمتها إجراء الحوار وتشكيل لجنة تعديل الدستور، والخطوتان كانتا من قبيل الفرقعات الإعلامية الفارغة. وقد قيل عن حق إن المراد بهما لم يكن لا إجراء حوار أو تعديل الدستور، إنما كان للعملية هدفان، الأول هو التجمل أمام العالم الخارجى الضاغط وإيهام عوام الغرب بأن النظام شرع فى الاصلاحات فعلا ولم يعد هناك مبرر لتغييره، أما الهدف الثانى فقد كان كسب الوقت وإطالة عمر النظام لانهاك المعتصمين والمراهنة على الوقت لانهاكهم واستنزافهم.

هذا الكلام ليس من عندى، ولكنى سمعته من أحد أعضاء لجنة الفقهاء القانونيين التى شكلت للنظر فى تعديلات الدستور. وخلال المناقشة معه حاولت إقناعه بأن أى نظر فى الدستور أو تعديل له ينبغى أن يسبقه إطلاق الحريات فى المجتمع، بما يسمح بإلغاء الطوارئ وحرية تأسيس الأحزاب، ورفع القيود عن النقابات وحرية إصدار الصحف، وغير ذلك من الاجراءات التى تفتح الأبواب واسعة لحضور القوى السياسية وتفاعلها مع الجماهير، بما يسمح فى نهاية المطاف بالاحتكام إلى رأى الجماهير فى انتخبات نزيهة وشفافة.

إن تعديل الدستور، فى ظل استمرار الطوارئ وتكبيل مؤسسات المجتمع بالقوانين المقيدة للحريات لن يحدث تقدما يذكر فى البناء الديمقراطى، فى حين أن إطلاق الحريات من شأنه أن يسمح بظهور خيارات وبدائل عدة أمام الناس، تكون أصدق تعبيرا عنهم.

إن تعديل الدستور قبل إطلاق الحريات لن يختلف فى شىء عن وضع تكون فيه العربة، ولست أخفى شكى وسوء ظنى بمن يحاولون إشغال الناس بنصوص الدستور المرشحة للتعديل، مع عدم التطرق لملف الحريات العامة، الأمر الذى اعتبره دليلا على السعى إلى التسويف وعدم الجدية فى الإصلاح.

(4)


لا أستطيع أن أحسن الظن أيضا بالذىن لا يرون فى الثورة الحاصلة سوى الإضرار بالوضع الاقتصادى، وتراجع عائدات السياحة ودخل قناة السويس، وعندى فى هذا الصدد ملاحظات منها:

ــ أن تلك الآثار الاقتصادية جزء من الثمن الطبيعى الذى يدفعه البلد لتحقيق مكسبه الكبير المتمثل فى إسقاط نظامه الاستبدادى، أملا فى الانتقال إلى نظام ديمقراطى حقيقى.. وإذا كان المئات قد دفعوا حياتهم لقاء تحقيق ذلك الكسب فيتعين علينا أن نحتمل أية أضرار اقتصادية تترتب على ذلك.

ــ أن الثورة استثمار للمستقبل كما قيل بحق، ذلك أنها إذا أوقفت نهب البلد واستنزاف ثرواتها، وفتحت الأبواب للاصلاح الحقيقى، فإن ذلك سيعوض أية خسائر اقتصادية راهنة. وينبغى ألا ننسى هنا أن لبنان ظل يشهد قتالا أهليا استمر ستة عشر عاما، ثم نهض بعد ذلك واستعاد عافيته وجاذبيته.

ــ أن الجميع مشغولون بالفساد السياسى فى مصر، وهو هم ثقيل لا ريب أحسب أن الثورة نجحت فى إزاحة أكبر دعائمه، لكن المسكوت عليه فى أزمة مصر هو الخراب الاقتصادى الذى أحدثه وخلفه النظام السابق والذى ظل يتستر عليه ويخفى معالمه ويزيف الشهادات الدالة عليه طوال السنوات الأخيرة، وحين تعلن حقائق الواقع الاقتصادى فسوف يكتشف الناس أن الأزمة سابقة على الثورة، وأن الذين عاثوا فى مصر فسادا طوال الثلاثين سنة الماضية مصوا دماءها وتركوها قاعا صفصفا. لذلك كان لابد للنظام أن يزول بعد أن ضيع المكانة وخرّب المكان، ومن ثم ارتكب بحق مصر جريمة تاريخية مضاعفة ينبغى ألا تنسى وألا تتكرر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved