فنان الياقات الزرقاء

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 15 فبراير 2020 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

عالم يدور بين الحارة والمصنع. يستدعي الفنان التشكيلي فتحي عفيفي تجاربه المختلفة التي تتأرجح ما بين المكانين الذي عرفهما عن قرب، فهو ابن حي السيدة زينب العريق حيث ولد عام 1950، الذي عمل في المصانع الحربية فور حصوله على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية عام 1968، أي في فترة ما بعد الهزيمة وحرب الاستنزاف ومحاولات مصر لاستعادة كرامتها.
زرت معرضه بقاعة خان المغربي والذي يستمر حتى 20 فبراير الجاري، فاستعدت بفرح تفاصيل بعض أعماله السابقة التي لا تشبه أحد، خاصة أنه يعرض على فترات متباعدة في السنوات الأخيرة وليس من النوع الذي تراه كثيرا في أوساط المثقفين، حتى لو شارك بعضهم ميوله اليسارية.
معرضه الأخير الذي أطلق عليه عنوان "دنيا" فتحي عفيفي يأتي لنا بنماذج من هذا العالم الأثير. نجد مثلا النساء الشعبيات الممتلئات بإطلالتهن التي تشع بالحسية والشهوانية، والوجوه التي ارتسم عليها تعب الحياة اليومية وكأنها تصرخ ألما، والأزقة والحارات التي صورها من أعلى، أو من منظور عين الطائر كما يقولون، لكي تظهر لنا تفاصيل المشهد والعلاقات بين الناس والمكان أو المدينة. وهو ما نلاحظه أحيانا أيضا في بعض أعماله التي تتناول حركة العمال داخل المصنع وعلاقتهم بالآلات.. تلك الكائنات الحديدية الضخمة التي استخلص منها لغة تشكيلية خاصة، تجعله مختلفا عن كل الفنانين الكبار الذين تناولوا موضوع العمال أمثال حامد عويس وعبد الهادي الجزار وعفت ناجي. ربما لأن فتحي عفيفي لم يكن أبدا الرسام الذي قرر توثيق مرحلة من خلال لوحاته مثلما فعل الجزار مع بناء السد العالي أو حامد عويس عندما رسم العمال أثناء خروجهم من المصنع، كواحد من رواد الواقعية الاشتراكية، لكن عفيفي هو ابن التجربة، هو واحد من هؤلاء العمال- أبناء عصر التصنيع- الذي تعود أن يقضي ساعات وهو يناجي الآلة أثناء شغله اليومي، وقد ظل يمارسه وهو يعمل بالفن.
***
كان في الستينات والسبعينات والثمانينات يذهب إلى المصنع في الصباح، ويرسم في المساء. يختزن حركة زملائه في العنابر وخلال فترات الراحة والطعام، ويستلهم منها تكوينات وتصميمات جعلته نسيج وحده بين الفنانين المعاصرين المصريين. لم يسع إلى تحويل العمال لأبطال أسطوريين، لكن بالأحرى لإظهار علاقة الترويض والمعاندة التي تربطهم بالآلات.
المكابس والكراسي والبراميل لها حضور.. التفاصيل الصغيرة تصنع اللوحة ويظهر بعضها بعد تدقيق وتمحيص، مثلما هو الحال في إحدى اللوحات التي تصور الحارة بالمعرض الأخير، عندما ننظر بدقة نكتشف أشخاصا وخيالات أخرى على الهامش لم نلتفت إليها لأول وهلة.. هو الزحام والتحام البشر الذي اعتاد عليه سواء في المصنع أو في الحي الشعبي.
***
شحنة تعبيرية هائلة وعفوية تميز لوحات عفيفي الذي لم يتبع قط قواعدا أكاديمية صارمة، حتى وإن كان حريصا على أن يصقل موهبته ويعلم نفسه بنفسه ويلتحق بالقسم الحر لكلية الفنون الجميلة على فترات متقطعة في منتصف السبعينات وبداية الثمانينات. حينها التقى بأنماط بشرية مختلفة عن بيئته العمالية الخالصة إذ عمل والده ترزيا بسلاح المهمات، فقد زامله في الدراسات الحرة شيخ أزهري معمم وضابط وأحد الوفديين وآخرون أضافوا لعوالمه التي اتسعت تدريجيا إلى المقاهي ومحطات المترو ودور السينما التي طالما أحبها وبرع في رسم حركة الناس وهم يصطفون أمامها في مناسبات سابقة.
في معرض خان المغربي الحالي توارى اللون الأزرق الذي ميز لوحاته، خاصة العمالية منها، اكتفى هنا بالأبيض والأسود اللذان افتتناه منذ البدايات، فهو يهوى اللون الأسود على سطح اللوحة البيضاء سواء كانت "توال" أو ورق أو خشب، وسواء استخدم الألوان الزيتية أو الحبر الشيني أو حبر الطباعة. ملمس اللوحة دائما يلائم الموضوع، وهي تفرض نفسها خارج التنميط والتصنيف. أظننا كنا بحاجة لشيء من الصدق والعفوية والموهبة وسط الكثير من الصخب والضجيج بلا طحين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved