أسطورة «مصر أولًا»: الدور الإقليمى ليس صدقة جارية

ياسر علوي
ياسر علوي

آخر تحديث: الأحد 15 مارس 2009 - 7:48 م بتوقيت القاهرة

 تعيش مصر موجة جديدة من العراك الصاخب داخل الجماعة الوطنية، يرفع فيه شعار «مصر أولا» فى مواجهة كل من يطرح «العروبة» كمنطلق لسياسة مصر الخارجية.

فى أكثر الصيغ تهذيبا، يتهم «العروبيون» بسوء تقدير أولويات الوطن، وعدم إدراك أن «ما يحتاجه المنزل محرم على الجامع» حسب المثل الدارج. فأنى لدولة نامية وفقيرة الموارد كمصر أن تملك ترف تبديد طاقاتها فى «معارك الآخرين» وقضاياهم.

بطبيعة الحال، فإن قسما كبيرا من هذا العراك ليس معنيا بمناقشة حاضر الوطن ومستقبله قدر عنايته بتصفية الحسابات وإصدار الأحكام على حقب مختلفة من تاريخ مصر، لكل منها «دراويش» متفرغون لإنشاد «مدائح زمنهم الجميل». أما القسم «السياسى» من هذا العراك، فيتضمن لائحة اتهام ذات حيثيات ثلاث:

أولا: أن دور مصر العربى هو فى أفضل الأحوال «عمل خيرى» يقوم به «شقيق أكبر» للتضامن مع «أشقائه» المحتاجين للدعم فى قضاياهم العادلة. وهو نشاط محمود فى ذاته، لكن انشغال «الشقيق الأكبر» به عن هموم «بيته»، هو ترف غير مبرر ولا مقبول.

ثانيا: أن هذه «الصدقة الجارية» التى قامت بها مصر لعقود طويلة أدت لتوريطها فى معارك «إكراما للآخرين»، راح ضحيتها عشرات الآلاف من شبابها، ودفعت مصر ثمنا اقتصاديا لا تزال تئن تحت وطأته إلى اليوم.

ثالثا: لو لم يكن هذا الحصاد المر «للصدقة الجارية» كافيا لتوضيح مزايا «الالتفات لحالنا»، فيجب على الأقل تخفيف حدة انغماسنا فى «معارك الآخرين» وضبطه من خلال شعار «مصر أولا»، أى أن تكون سياسة مصر العربية مسخرة لخدمة المصالح المصرية، وليس لتوزيع المجاملات على الأشقاء والجيران.
لو صحت هذه الاتهامات لكان نداء «مصر أولا» هو الحد الأدنى المطلوب فورا لتصحيح الخطأ التاريخى الذى وقعت فيه مصر. ولكن هذه الاتهامات، والمنطق السياسى الذى تستند له، لا تصمد أمام أى قراءة جادة لتاريخ مصر الحديث.

فالدور الإقليمى ليس عملا يمارس فى وقت الفراغ من مشكلات الوطن، وإنما هو جزء رئيسى من صلب العمل الوطنى، وضرورات تسيير شئون الدولة المصرية.

وسياسة مصر العربية قامت تاريخيا بوظيفتين أساسيتين: الأولى، كمصدر أساسى لشرعية الحكم فى مصر خلال العقود الخمسة الماضية (تكفى مراجعة الإلحاح اليومى فى الإعلام الحكومى على منجزات السياسة الخارجية، الحقيقى منها والوهمى، لتوضيح دورها فى بناء الشرعية)، والثانية كأحد أهم مصادر الريع والدخل القومى الذى مول مشروعات التنمية فى مصر.

لا نتحدث هنا فقط عن تجربة مصر الناصرية أثناء الخطة الخمسية الأولى مثلا، التى استند الآداء التنموى فيها على دعم صناعى من الاتحاد السوفييتى، ودعم زراعى تمثله واردات القمح المخفضة من الولايات المتحدة (فى استفادة «داخلية» مباشرة من السياسة الخارجية لعدم الانحياز)، وإنما نشير أيضا للتوازى بين قرار مصر بتغيير تحالفاتها الدولية فى منتصف السبعينيات وعودة المعونات الأمريكية لمصر، أو للعلاقة بين الموقف المصرى فى حرب الخليج الثانية عام 1991 وبين خفض 20 مليار دولار من عبء الدين المصرى. المقصود هو أنه، بصرف النظر عن الموقف من التوجهات السياسية التى تضمنتها الأمثلة السابقة، فإن المؤكد أن السياسة الخارجية والدور العربى لمصر ــ بمضامينه المختلفة، بل والمتناقضة أحيانا، التى مارستها العهود المختلفة ــ كانا فى صلب «الحال المصرى» لا أعمالا ترفية «للتصدق» على الجيران.

والثانية، وبنفس المنطق، لم تكن المواجهات السياسية والعسكرية التى خاضتها مصر من قبيل «المجاملة» للآخرين أو التورط فى حروبهم.

لسنا نذكر هنا فقط ببديهيات الأمن القومى من قبيل ارتباط الدفاع عن مصر تاريخيا بخط غزة ــ بئر سبع فى قلب فلسطين، أو بارتباط الاستقرار فى المشرق العربى أو الخليج أو السودان مثلا بعمق الأمن المصرى، وإنما نتكلم أيضا عن التجربة التاريخية لمعارك مصر العسكرية. فالغارة الإسرائيلية الشهيرة عام 1954 (أول صدام إسرائيلى مع مصر المستقلة) تمت بدون أى تحرك مصرى «لمجاملة الآخرين»، والعدوان الثلاثى كان ردا على قرار مصرى «داخلى» يتعلق بتأميم قناة السويس لتمويل بناء السد العالى.

فى كل العقود الخمسة الماضية، لم تطلق مصر الرصاصة الأولى سوى فى حرب شرعية عام 1973 استهدفت تحرير أرض «الوطن المصرى»، وليس أراضى «الآخرين». الانكفاء على الداخل الذى لم يكفنا «شر» الاشتباك سياسيا وأحيانا عسكريا مع الخارج فى عالم الخمسينيات، يصعب أن يكون كافيا فى عصر العولمة.

ثالثا، إن تحرك مصر السياسى فى المحيط العربى لا يمكن فصله عن نفس بديهيات الأمن القومى، إلا ضمن تصور جديد لنظرية الأمن القومى مفاده أن أمن مصر لا يهدده سوى وجود قوات أجنبية فى «ميدان التحرير»!! أما ما دون ذلك، فهى تفاصيل لا تعنينا إلا من باب الفضول لمعرفة ما يحدث حولنا، أو لمجاملة «جيراننا» العرب.

رابعا، حتى لو قبلنا جدلا بأن المواجهات التى خاضتها مصر كانت لأسباب «غير مصرية صرفة» (وفقا لنظرية «الأمن القومى يبدأ وينتهى فى ميدان التحرير»)، فمن المغالطة أن نعزو مشكلات مصر الاقتصادية الحالية إلى هذه المواجهات، إذ إنه لا يعقل أن نفترض أن ثلاثة عقود من الانسحاب المصرى من «معارك الآخرين» والتركيز على «أمن ميدان التحرير» ليست كافية لتصحيح أخطاء «العهود البائدة».

الدور الإقليمى إذن ليس نشاطا ترفيا أو معطلا للتنمية، والانكفاء على الداخل بذريعة «مصر أولا» ليس خيارا ممكنا أو مجديا. يبقى مع ذلك السؤال: ولماذا العروبة بالذات كإطار للتحرك؟

هذا سؤال جاد ويستحق عودة مفصلة فى مقال آخر، ولكن بالإمكان الآن الإشارة إلى ثلاثة «رءوس مواضيع» أو حيثيات أساسية للإجابة عنه.

أولها ما يتهدد المنطقة من خطر تفكك مؤسسة الدولة فيها والارتداد لكيانات بدائية تقوم على ولاءات قبلية و/أو مذهبية وتنشغل بمعارك حمقاء لتسوية خلافاتها «الفقهية»، أو صراعات «تاريخية» على مراعى الإبل أو مساقط الأمطار!! (هل يذكر القارئ الدور «التاريخى» للصراعات على المراعى فى إشعال أزمة دارفور التى تترنح المنطقة اليوم من تداعياتها؟) كيف يؤثر ذلك على مصر؟ وهل تملك ترف تجاهله؟

ثانيا، القضية الفلسطينية مهددة بالضياع ضمن سيناريوهات تمس صميم الأمن المصرى (تذويب القضية وعودة الخيار المصرى لغزة والأردنى للضفة العربية). هل هذا شأن خارجى لا يعنينا إلا بمقدار ما يمليه علينا «التضامن الأخوى»؟

ثم ضمن أى منطق يمكن فهم الاحتجاج المتكرر على تدخل دول «غير عربية» كإيران فى شئون دول عربية كالعراق أو البحرين، ما دام الكل، عربا وإيرانيين، مجرد جيران نقف منهم جميعا على مسافة واحدة؟

كل هذه الملفات توضح أهمية بلورة تصور ما للعروبة، لمصر مصلحة أكيدة فيه. تصور يستخدم «المدخل العروبى» كرباط حداثى ديمقراطى يؤسس للتعاون والتنمية وحماية الأمن المشترك لدول المنطقة، ويحمى مصالح مصر المتشعبة فى المنطقة العربية. هذه مهمة ملحة، وتستحق فتح أوسع نقاش حول سبل ترجمتها فى سياسات ملموسة. ولكن ما يمكن تأكيده هنا بضمير مطمئن، هو أنه لو لم تكن «العروبة» موجودة، لتوجب علينا، فى مصر بالذات، اختراعها، ولو من قبيل الدفاع عن «مصر أولا».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved