عن الانتماء وسنينه

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأحد 15 مارس 2009 - 7:41 م بتوقيت القاهرة

 هذه قصة أهديها إلى أثرياء زماننا فى مصر والعالم العربى. فقد قام المصرفى الأمريكى المعروف ليونارد إبيس ببيع نصيبه فى مصرف «سيتى ناشيونال» بولاية ميامى. وكانت حصيلة البيع ٦٠ مليون دولار، لكن الرجل لم يسعده أن يستحوذ وحده على هذا المبلغ الكبير، ولم يسترح إلا حين وزعه كله على ٣٩٩ شخصا يعملون معه فى البنك و٧١ آخرين كانوا حوله. لم يحدث أحدا بما فعله، ولكنه وزع هذه الثروة وعاد إلى بيته مستريح الضمير. إلا أن إحدى الصحف المحلية علمت بالنبأ فنشرته، وحينئذ تلقى سيلا من الاتصالات التى يبدو أنها سببت له إزعاجا، فقال فى اتصال هاتفى لصحيفة ميامى هيرلد، إن ما أقدم عليه لا يستحق الأصداء التى أحاطت به ولاحقته، حيث ما كان لوسائل الإعلام أن تبالغ فى اهتمامها بالموضوع.

المبلغ ليس استثنائيا ــ لكن الحالة استثنائية ــ فقبل ثلاث سنوات (فى عام ٢٠٠٦) أعلن رجل الأعمال الأمريكى وارن بافيت صاحب مؤسسة بيركشاير للاستثمارات تبرعه بمبلغ ٣٧ مليار دولار لخمس مؤسسات خيرية، منها ٣١ مليارا لمؤسسة «بيل ومليندا جيتس» (صاحب شركة ميكروسوفت) المعنية بأبحاث الإيدز والملاريا والسل وتحسين جودة التعليم. وكان بيل جيتس قد تبرع بنحو ٢٨ مليار دولار لهذه المؤسسة، قبل أن يترك رئاسة شركاته فى عام ٢٠٠٨، ليتفرغ تماما للإشراف على أنشطتها الخيرية. كذلك أعلن السيد ريتشارد برانسون صاحب مجموعة شركات النقل الدولية فيرجن، التى تملك شركة للطيران وأخرى للقطارات عن تبرعه بكل أرباح شركاته (حوالى ٣ مليارات دولار) لمكافحة التغيير المناخى وحماية البيئة من التلوث. وتضم قائمة المتبرعين الكبار للأعمال الخيرية فى الولايات المتحدة خلال القرن الماضى أسماء رجال أعمال مثل أندرو كارنجى الذى وجه ٣٥٠ مليون دولار لتلك الأنشطة وجون روكفلر الذى تبرع بمبلغ ٤٧٥ مليون دولار، وهى مبالغ تعادل عدة مليارات بأسعار هذا الزمان.

صحيح أن هناك أثرياء فى الولايات المتحدة قدموا للمجتمع مبالغ أكبر مما قدمه ليونارد إبيس إلا أنه تميز عنهم بأمرين، أولهما أنه تبرع بالستين مليون دولار فى صمت ودون أى إعلان، وثانيهما أنه أراد بها أن يسعد من حوله، وأن يرد الجميل إلى الذين عملوا معه، معتبرا أن لهم حقا فى تلك الثروة التى حققها.

تبهرنا الصورة وتذكرنا بنبل الأثرياء المصريين قبل قرن من الزمان، الذين تسابقوا فى وقف العقارات والأراضى لأوجه البر والخير. وهو ما رصده الدكتور إبراهيم البيومى غانم فى كتابه المهم عن «الأوقاف والسياسة فى مصر». وذكر فيه أن من بين أثرياء تلك الفترة الذين أوقفوا أراضى تراوحت بين ألف و٤٥٠٠ فدان، على باشا مهنى وأحمد باشا المنشاوى ومحمد باشا البدراوى عاشور وعلى باشا شعراوى ومحمد بك حسن الشندويلى ولملوم بك السعدى... وآخرون كثيرون.

من الملاحظات المهمة التى أوردها المؤلف فى بحثه، أن جميع أهل الحكم فى مصر، منذ أيام محمد على باشا حتى الملك فاروق، أوقفوا أطيانا لا حصر لها على أوجه الخير فى المجتمع، وهى الظاهرة التى اختفت وانقطع حبلها منذ قامت ثورة عام ١٩٥٢ وحتى الآن.
من تلك الملاحظات أيضا أن إسهام متوسطى الحال فى العطاء للمجتمع والتعبير عن الانتماء إليه كان حاضرا بقوة، الأمر الذى يعنى أن دائرة الشعور بالانتماء كانت شديدة الاتساع، فشملت المنشاوى باشا الذى أوقف ٤٦٠٠ فدان من الأرض فى محافظة الغربية، كما شملت سيدة مجهولة أوقفت نصف قيراط تقام عليه طلمبة مياه تروى العطاشى فى المنوفية. وهى الصورة التى انقلبت رأسا على عقب الآن، حيث شح عطاء الجميع سواء كانوا من أهل القمة أو أهل السفح، الأمر الذى يستدعى بقوة السؤال التالى: أين ذهبت روح التعبير عن الانتماء للمجتمع، وإلى أى مدى أسهم غياب المشاركة السياسية فى بلوغ هذه النتيجة؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved