عن الحرب.. وما بعدها

حامد الجرف
حامد الجرف

آخر تحديث: الثلاثاء 15 مارس 2022 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

ككل ما هو إنسانى، تباينت بشأن الغزو الروسى لأوكرانيا وجهات النظر، تبعا لاختلاف المصالح ومساقات الرؤية، كما اختلفت التوقعات بشأن مآلاتها.

ثمة مساران أساسيان فى هذا الشأن: أولهما: يجنح لتبرير الغزو والتماس المعاذير لروسيا؛ إذ يرى أن الغرب يعمل على تطويقها جذبا لحدائقها الخلفية لتنضوى تحت راية الناتو بما تراه هى مهددا لأمنها القومى بما يرقى لحد الاستفزاز الواجب عليها لجمه والسيطرة عليه.
وثانيهما: يذهب إلى أن روسيا هى من فوتت فرص التفاوض طرحا لمخاوفها وبحثا عن حلول سلمية مقبولة لها، وأنها أصرت مسبقا على الغزو بتحشيد جيوشها رغم نفيها لعزمها القيام به.
ولا شك أن للغزو أسبابه السابقة عليه، والتى تتجوهر فيما ترتب على انحلال الاتحاد السوفيتى وسقوط حلف وارسو الجامع لقوام الدول التى كانت تدور فى فلكه ثم انخراط العديد منها بعد ذلك فى عضوية الناتو كالتشيك والسلوفاك والمجر وبولندا ودول البلطيق، وتطلع غيرها ومنهم أوكرانيا لعضويته بما عزز لدى الكرملين إحساسا متضخما بتآكل المكانة وتراجع الهيبة ونقصان الدور، زاده رفض انضمام روسيا ذاتها للاتحاد الأوروبى ولحلف الأطلنطى، وتصور الكرملين أن الأوضاع الدولية الراهنة تسمح له باستعادة ما يتصوره من دور كونى مفقود باستخدام آلته الحربية فرضا لإرادته وإعادة لترتيب الأوضاع التى نشأت عن انحلال الاتحاد السوفيتى السابق.
ثمة أسئلة هامة تطرحها تلك الأسباب السابقة على الغزو، وثمة أسئلة أخرى يطرحها السلوك الدبلوماسى الروسى بعد الغزو وكذلك الجهود الدولية فى مواجهته. وتلزم الإجابة لاستيضاح غوامض الصورة ولاستشراف ما بعدها من مآلات المستقبل.
• • •
تتمحور مجموعة الأسئلة الأولى حول مدى مسئولية أوكرانيا أو غيرها من الدول خاصة أعضاء الناتو عن انفراط عقد الاتحاد السوفيتى واستقلال دولة.
والذى لا شك فيه أن انهيار الاتحاد السوفيتى وانحلاله لم يكن أبدا وليد عنف من خارجه أو حرب عليه أو غزو له، وإنما كان نتيجة طبيعية لاختلالات بنيوية عميقة فيه، وكأثر لإعمال آليات الصراع السياسى والاقتصادى السلمى من الدول المواجهة له وعلى رأسها الولايات المتحدة بطبيعة الحال، وكأثر كذلك للتنمية السوفيتية غير المتوازنة التى أولت سباق التسلح بأكثر مما كان ينبغى من طاقتها الاقتصادية، فضلا عن أثر سياسات الركود والفساد فى حقبة بريجنيف.
كما وأن انحلال الاتحاد السوفيتى وانفراط عقد دوله واستقلالها لم يكن كذلك ناشئا عن معاهدة دولية تولت أمر ترتيبات ما بعده ليقال بأن غبنا لحق بروسيا الاتحادية، كما كان الحال فى صلح فرساى مثلا بالنسبة لألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى.
ومن جهة أخرى فإنه ليس بمقدور روسيا أن تنكر أن استعادة دول الاتحاد السوفيتى السابق للشخصية الدولة لكل منها كدول مستقلة ذات سيادة يمنع روسيا من التدخل فى الخيارات السياسية لتلك الدول كرغبتها فى الانضمام للاتحاد الأوروبى أو لحلف الناتو إن توافرت فيها شروط عضوية أى منهما، وفق أى مفهوم للسيادة بدءا من جان بودان ومرورا بصلح وستفاليا وانتهاء بميثاق الأمم المتحدة.
إذن فمعاذير روسيا ومبرراتها للغزو لا تقوم على سند صحيح من التاريخ أو من القانون الدولى أو من مواثيق النظام الدولى القائم.
والذى لا شك فيه أيضا أن رفض قبول روسيا ضمن الاتحاد الأوروبى وانضمامها للناتو مع تطلع أوكرانيا لذلك الأمر قبل الغزو، لا يشكل أى منهما صفعة لروسيا ولا إهانة لها؛ ذلك أن أوكرانيا دولة أوروبية جغرافيا بينما روسيا دولة أورآسية؛ إذ تقع أغلب أراضيها فى قارة آسيا بالأساس، فضلا عن اختلاف طبيعة النظام السياسى فى البلدين، ومن المعلوم أن ميثاق واشنطن المؤسس لحلف الناتو يشترط لعضوية الحلف أن تكون الدولة طالبة العضوية أوروبية وديمقراطية غير عنصرية. ومن ثم فإن رفض انضمام روسيا للاتحاد الأوروبى وللحلف يعد أمرا طبيعا لانتفاء شروط الانضمام فيها، أما انضمام أوكرانيا فتحكمه فقط سيادة الدولة الأوكرانية وقرارها، ومواثيق كل من الاتحاد والحلف.
• • •
أما مجموعة الأسئلة الخاصة بالسلوك الدبلوماسى الروسى بعد الغزو وبموقف المجتمع الدولى فى مواجهته خاصة دلالات التصويت على قرار إدانته بالجمعية العامة، فإن إجاباتها تؤكد عدم صدقية المعاذير الروسية، فموسكو فى مفاوضات مينسك اشترطت تعديل الدستور الأوكرانى بالنص فيه على التزام أوكرانيا بعدم الانضمام للناتو، وكذا بتعهدها بعدم سعيها لامتلاك أو حيازة سلاح نووى وباعترافها بالإقليمين اللذين دعمت روسيا انفصالهما عنها (دونتسك ولوجانتسك)، وبسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، فضلا عن وقف أوكرانيا لأعمالها القتالية – والتى هى دفاعية بالأساس – إذ لم يخرج جيشها عن أراضيه. وهى شروط غاية فى الإجحاف تتساوى فى مجموعها وتوقيع وثيقة استسلام غير مشروط، فضلا عما تمثله من خرق فاضح وغير مقبول لأى مفهوم للسيادة الوطنية. ذلك بينما تعمل الآلة الإعلامية لموسكو على التلويح بالقوة النووية، إما بقصد الردع فى حده الأدنى بمجرد التلويح، وإما بقصد الاستعداد الحقيقى للسيناريو الكارثى إن أخفقت فى تحقيق هدفها من الغزو.
أما دلالات التصويت فى مجلس الأمن، فإن الفيتو الروسى لم يكن مفاجئا بطبيعة الحال بل كان أمرا متوقعا ويؤكد جدية الدعوة لإصلاح نظام الأمم المتحدة والذى يجب أن يشكل نتيجة لتلك الحرب العبثية بعد أن تضع أوزارها، ذلك أن الغزو لا تستهدف روسيا منه إلا إعادة تشكيل النظام الدولى وتحديد أقطابه ورسم دوائر النفوذ فيه، وهو الأمر الذى يتحتم ألا يتم إلا عبر مؤتمر أممى وليكن سان فرانسيسكو (2) لإصلاح الأمم المتحدة ونظامها القائم وليس لتسويات ما بعد الحرب كما كان حال مؤتمر فيينا أوائل القرن التاسع عشر بعد الحروب النابليونية، ومن ثم فإن سان فرانسيسكو (2) ينبغى أن يعيد تشكيل النظام الدولى بما يصلحه وليس بما يحقق أطماع القوى التى تريد الانفراد بالسيطرة عليه أو توسعة دوائر نفوذها كأثر للغزو وخاصة إن كانت نظمها لا تتصف بآليات الحوكمة وضمانات رشادة القرار. والمؤكد أن دلالات التصويت فى الجمعية العامة جاءت بما يؤكد لموسكو ليس فقط اتحاد الأسرة الدولية ضد الغزو وأهدافه إلى الحد الذى امتنع معه حلفاء موسكو المحتملين عن التصويت ضنا بأنفسهم من الانجرار للصراع وانتظارا لنتائجه رغم تأييدهم الباطن له وكأن موسكو تقوم بالغزو لحسابها وبالنيابة عنهم فى هذه المرحلة من إعادة صياغة النظام الدولى، ولكنها أكدت كذلك إلحاح الحاجة لإصلاح ذلك النظام بتعديل ميثاق الأمم المتحدة توسعة لمجلس الأمن وإلغاء لحق النقض فيه وزيادة لصلاحياته مع اعتماد نظام التصويت وفق الأوزان النسبية للدول وتقرير حزمة تصويت لكل وزن منها يجوز للدولة تجزئتها حال مباشرتها الفعلية لحق التصويت وعلى أن يجرى سريا وليس علنيا وتحديد النصاب المطلوب لصحة كل من القرارات الإجرائية والموضوعية العادية، وتلك التى تتصل بحالات تهديد السلم والأمن الدوليين، فضلا عن تحديد نصاب خاص للقرارات التى تتخذ طبقا للفصل السابع من الميثاق، وذلك فى سبيل مفرطة قرارات مجلس الأمن، وإنهاء حق النقض المعطل لفعالية أدائه. وعلى أن يسبق ذلك تشكيل لجنة حكماء دولية من شخصيات عالمية مختارة لتاريخها الشخصى وعطائها الإنسانى من مختلف القارات وممثلة للثقافات والحضارات المختلفة لتقرير المعايير الواجب اعتمادها لتحديد الوزن النسبى للدول الأعضاء كأساس لنظام تصويت مستحدث وكوتة الأصوات التى ستتقرر لكل منها، مع الإبقاء على نظام العضوية الدائمة للدول التى تتجاوز وزنا نسبيا محددا والانتخاب الدورى لغيرها من الدول وفق النظام الحالى، فضلا عن تقرير إلزامية ما تتخذه الجمعية العامة من قرارات اعتمادا على قرار الاتحاد من أجل السلم فى حالات فشل مجلس الأمن فى التوصل لقرارات فى المسائل المهددة للسلم والأمن الدوليين.
• • •
إذا كانت روسيا تستهدف استعادة أمجاد غابرة ومد نفوذها بالحرب، فإنه ينبغى عليها أن تعى الفارق بين السيطرة والنفوذ وهو ما لا يتحقق إلا بآليات القوة الناعمة والتأثير الحضارى الإيجابى لا بالقوة الخشنة والغزو غير المبرر والحرب غير المشروعة.
وعلى جميع الدول السعى لتقديم العون لأوكرانيا صونًا لسيادتها الوطنية ولحقها فى تحديد خياراتها السياسية ولو كانت بالانضمام للناتو، وأن تعمل فى ذات الوقت لإلقاء طوق النجاة لروسيا لإخراجها من أزمتها التى ورطت نفسها فيها بسياستها الخرقاء، لأنه ليس من صالح العالم أن يخرج أى من الطرفين من غبار المعارك جريحا فى كرامته الوطنية أو ذليلا مهانا؛ ليكون الغزو بذلك مجرد جولة فى اتجاه حرب كونية تتلوها لن تبقى ولن تذر. وعلى جميع الدول أن تتنادى لعقد سان فرانسيسكو (2) لإصلاح النظام الدولى الذى تراكمت مشكلاته بما ينذر الآن أكثر من أى وقت مضى بحرب قد تنهى حياة الإنسان على الكوكب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved