ميدان التحرير وقصر العروبة: كلام عن الثورة والسلطة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 16 أبريل 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

 الحسابات انقلبت والخرائط تغيرت فى السباق الى قصر العروبة. ثلاثة مرشحين أقوياء خرجوا دفعة واحدة لاعتبارات قانونية متباينة. رجل المخابرات القوى فى نظام مبارك اللواء «عمر سليمان».. والرجل القوى فى جماعة الإخوان المسلمين المهندس «خيرت الشاطر».. والمرشح السلفى المثير للجدل الشيخ «حازم أبواسماعيل».

 

الآن يبدو جليا أن اللواء «عمر سليمان» لم يكن مرشح المجلس العسكرى على ما راجت التكهنات والتخوفات.

 

 قابل «سليمان» المشير «حسين طنطاوى» مرتين قبل اعلان ترشحه. الأولى، فى يوم الثلاثاء الذى يسبق مباشرة إغلاق باب الترشح بحضور الفريق «سامى عنان». بدت العبارات مقتضبة، والوجوه لا إشارات عليها قبولا أو رفضا. فوجىء الجنرال الذى تقارن تعبيرات وجهه بلاعبى البوكر بتعبيرات مماثلة على وجهى «طنطاوى» و«عنان».. وبتعبير قائد عسكرى بارز: بـــ«الوش الجبس». 

 

اقتنع «سليمان» بعد تلك المقابلة بأن الانسحاب هو القرار الصحيح وأعلن انسحابه بالفعل فى اليوم التالى.. ثم عاد قبل إغلاق باب الترشح بيوم واحد للقاء آخر مع المشير يبلغه بقراره الدخول فى السباق الرئاسى. ويبدو مستغربا بعد أن استبعدت لجنة الانتخابات الرئاسية اللواء «سليمان» من القائمة الأولية قبل البت فى الطعون أن الجنرال الذى ترأس المخابرات العامة لسنوات طالت لا يعرف كيف يرتب و يحصى أوراقه ومستنداته. المثير أنه اتصل بلجنة الانتخابات طالبا استكمال التوكيلات الناقصة بادعاء أنها لديه وأن تاريخ استخراجها يعود الى ما قبل إغلاق باب قبول أوراق الترشح.

 

احتمال قبول الطعن بهذه الحيثية يبدو متهافتا للغاية، فهو يجافى نصوص القانون ويفتح الباب واسعا للحديث عن تزوير فاضح فى إجراءات الترشح ويشكك فى نزاهة الانتخابات قبل أن تبدأ. اللعبة انتهت إذن أيها الجنرال.

 

بعد خروجه تراجعت حدة المساجلات حول قانون العزل السياسى، وانفرجت مؤقتا الاجواء التى كانت تنذر بصدام.. خاصة مع الخروجين الآخرين.

 

فخروج «الشاطر»، الذى لم ينشر اصلا قرار العفو الشامل عنه فى الجريدة الرسمية، يفسح المجال لمراجعات داخل الجماعة فى السياسات التى دفعت بها الى الأزمة فى لحظة زهو وتكبر، واعادة نظر فى الترشح برئيس احتياطى.. وخروج «ابو اسماعيل»، الذى ثبت بحقه ان المرحومة والدته تحمل الجنسية الامريكية يطرح تساؤلات حول مدى الالتزام بالقواعد والإجراءات القانونية فى السباق الى قصر العروبة، فهناك فارق جوهرى بين الحقوق والدفاع عنها والانفلاتات والانخراط فيها.

 

سؤال المشير الآن لممثلى الاحزاب السياسية : «هل نصدق على قانون العزل أم نحيله للمحكمة الدستورية لتبت فيه؟».. فى تقديره أن الإحالة للدستورية فيه احترام لسلامة إصدار القوانين، ولكنه يخشى أن يتهم بحماية الفلول، طالبا الدعم من القوى السياسية التى استصدرت القانون.

 

العودة لموائد الحوار تلت احتمالات صدام وصلت الى ذروتها فى جلسة مجلس الشعب التى أقرت قانون العزل السياسى.

 

 فإضافة كلمة «الوزير» التى تبدو منطقية فى سياق نصوص قانون «العزل السياسى» تنطوى على شحنة متفجرات سياسية أوشكت أن تطلق حممها، إذ إنها تعنى عزل المشير «حسين طنطاوى» من المهام التى يتولاها على رأس الدولة ومن قيادة القوات المسلحة.

 

المفارقة أن الرجل الذى سيعرض عليه القانون للتصديق عليه بصلاحيات رئيس الجمهورية التى يحوزها هو نفسه معزول بمقتضى نصوصه ومتهم فيه بأنه «فلول».. عليه أن يستقيل من منصبه كوزير للدفاع ورئيس للمجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل أن يعود لبيته محروما من مباشرة حقوقه السياسية!

 

قيادات الإخوان المسلمين أدركت المأزق قبل أن تستحكم حلقاته، ويتعذر تدارك تداعياته. جرت تحركات تحشد نواب الأكثرية للتصويت مرة أخرى عكس التصويت الذى جرى، تبعتها مساجلات بين رجلين تربطهما علاقات سياسية وإنسانية ممتدة. أولهما، رئيس مجلس الشعب الدكتور «سعد الكتاتنى» الذى بدا فى المشهد منهكا وتركيزه غادره.. وثانيهما، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الأكثرية الدكتور «حسين إبراهيم»، الذى حاول أن يلفت انتباه الأول إلى المأزق الذى تنزلق إليه الجماعة، لا يفصح عن مقصده الحقيقى، ولكنه يشير إليه بعبارات غائمة مثل أن «بعض الوزراء تكنوقراط شرفاء لا ذنب لهم فى إفساد الحياة السياسية»، ولكن الإشارات استعصت على الأول، فتحولت المساجلات الغائمة إلى حدة كادت تفلت عباراتها قبل أن ينتبه «الكتاتنى» إلى أن قياداته فى الجماعة تطلب منه إعادة المداولة وفق اللائحة لحذف الإضافة التى جرى التصويت عليها.. وتحولت الأكثرية من ضفة إلى أخرى فى الدقائق الأخيرة.

 

المشهد بذاته يلخص الأزمة وتعقيداتها بين العسكرى والجماعة، الذى يبدو الصراع بينهما محكوما، ولكنه قد يفلت من عقاله بانزلاقات أقدام واندفاعات حوادث.

 

على مدى الأسابيع الأخيرة بدا المجلس العسكرى لغزا مغلقا أمام الجماعة وقياداتها، أغلق أبوابه على نفسه، واسدل ستائر داكنة تحول دون رؤية ما يجرى فيه وما يخطط له

 

الصمت فيه غموض، والغموض حوله تساؤلات، والتساؤلات تعود إلى أصحابها مصحوبة بعلامات تعجب وإشارات قلق.

 

الجماعة القلقة فى حساباتها سعت فى الربع ساعة الأخيرة من جلسة البرلمان إلى تدارك الصدام الخشن، ولكنها ذهبت فى اليوم التالى إلى ميدان التحرير فى صدام من نوع مختلف فيه شد وجذب وإعادة ترتيب أوراق لمواجهات محتملة.

 

فى العودة إلى ميدان التحرير إشارات ورسائل. هناك اعتراف عملى بالأزمة لا ترادفه مراجعات للأخطاء السياسية التى ارتكبتها الجماعة، وأن الأزمة استحكمت، وأنها قد تفضى إلى خسارة كل شىء البرلمان بغرفتيه «الشعب» و«الشورى»، الحكومة والتطلع لتشكيلها، الرئاسة والإمساك بمقاليدها، الدستور والتحكم فى لجنته التأسيسية.

 

العودة للتحرير محاولة لقطع الطريق على كل تلك الخسارات المحتملة، وفيه استعراض سياسى بأحجام القوة والقدرة على الحشد، والرسالة إلى العسكرى: «قادرون على التصعيد والمواجهة». ولكن هذه رسالة حولها تساؤلات عن حقيقة الحشد الذى جرى فى التحرير، فقد تكدست قوافل الحافلات فى المنطقة المحيطة بالميدان، وبدا أن الحشد ارتكز على حسابات تنظيمية ومالية، وليس بقوة الرسالة وتأثير النداء العام. مال الإخوان إلى التأكيد أن الحشد ليس تنظيميا، وأنه يعبر عن المجتمع كله لا عن الجماعة وحدها. هذا التأكيد يدخل فى تعقيدات الأزمة لا حسابات الثورة. فللثورة أهدافها فى التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تؤكد الهوية العربية الإسلامية، تحفظ حقوق المواطنة، تصون الحريات العامة، تضمن العدالة الاجتماعية، وهذه قضية «الدستور» الذى ينبغى أن تدمج فيه أهداف الثورة وتطلعاتها، لا أن تنفرد جماعة سياسية وحدها بتشكيل «تأسيسية الدستور» بالطريقة التى جرت وأدت الانسحابات منها والاحتجاجات عليها إلى إبطال مشروعيتها قبل أن يبطل تشكيلها حكم قضائى.

 

هنا السؤال يطرح نفسه: هل عادت الجماعة إلى الثورة؟

 

الإجابة تبدو مراوغة.. وفى رسائلها حاولت الجماعة بالعودة للميدان أن تنسب نفسها للثورة واستعادة شىء من الأجواء التى صاحبت أيامها الأولى، تجنبت الشعارات الدينية، ركزت فى شعاراتها ولافتاتها على شهداء الثورة والوفاء لدمائهم وعزل الفلول وتطهير الداخلية والإعلام.. وهى الأهداف ذاتها التى تبنتها ائتلافات الشباب على مدى شهور طويلة فى مليونيات وتظاهرات أفضت إلى مواجهات دامية فى «ماسبيرو» و«محمد محمود» و«مجلس الوزراء». تلك المواجهات الدامية غضت الجماعة الطرف عن انتهاكاتها التى جرت والدماء التى سالت فيها، غادرت الميدان مبكرا وذهبت إلى حسابات السلطة وتقاسمها مع العسكرى، أحيانا تصدر بيانات لإبراء الذمة تدين الانتهاكات، ولكنها تركت الشباب فى العراء السياسى يواجهون بصدورهم العارية الموت من أجل الأهداف التى يعود الإخوان الآن للميدان للدعوة إليها.

 

والمعنى هنا أن العودة للميدان له علاقة بالسلطة وصراعاتها قبل الثورة وأهدافها. السلطة لا الثورة، المصالح قبل المبادئ، المناورة أساس اللعبة. كل ذلك لم يعد صالحا لإعادة اللحمة بين الجماعة والقوى السياسية الأخرى. لابد أن يكون الأمر واضحا ونهائيا: لا تكويش على الدولة، وليس بوسع الجماعة أن تضع الدستور بمفردها، وفوق طاقتها السياسية التعالى على الآخرين. ومن مصلحة مصر وثورتها التوافق الآن بين الجماعات السياسية التى شاركت بقدر أو آخر فى الثورة لمنع انتكاسها أو سرقتها، أو أن يتصور أحد أطرافها أن بوسعه إقصاء الآخرين ومصادرتها لحسابه وحده.

 

الجماعة المأزومة تعود للتحرير مرة أخرى، تستشعر الخطر، أن تخسر كل شىء. فى لحظة الخطر تذكرت أن شرعية الثورة أقوى من شرعية البرلمان، فالشرعية الأخيرة مرشحة للتراجع الكامل، مرة بالأداء غير المقنع لنواب الجماعة، ومرة أخرى بأشباح حكم محتمل للمحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية القانون الذى أجريت على أساسه انتخابات «الشعب» و«الشورى».

 

العودة إلى الميدان فيه محاولة ترميم صورة وإثبات شعبية يدرك قادة الجماعة أنها تراجعت بفداحة. خطوة إيجابية بالتأكيد أن تتقدم الجماعة لفتح صفحة جديدة، أن تعتذر عن أخطائها السياسية، أن تفتح جسورا مع القوى المدنية والشبابية، فهم حواجز حماية تحول العصف بهم عند لحظة الصدام، فالجماعة بمعايير القوة هى الخاسر الأكبر عند الصدام، ولكن للثورات معايير أخرى تحمى وتصون، ولكن معضلة الجماعة أنها تستدعى الثورة لمصالحها وتتحدث عنها بلا المبادئ التى جسدتها، ولا تريد أن تدفع تكاليف الوفاق الوطنى والمصالحة مع القوى السياسية والشبابية. تطلب التكويش والوفاق فى الوقت نفسه.  

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved