الرقصة التى كانت عنيفة

محمد موسى
محمد موسى

آخر تحديث: الأربعاء 15 أبريل 2015 - 9:55 ص بتوقيت القاهرة

كان صوته النحيل مختلفا عن الجميع، وهو يلقي أشعاره في شرائط كاسيت، التي كنا نهربها إلى مدينة الطلبة، ونجلس حولها ليالي طويلة.

الأستاذ عبد الرحمن الأبنودي الذي احتفلنا بعيد ميلاده هذا الأسبوع، يقف بيننا لا يزال، مضيئا مثل منارة، ومهيبا مثل قامات النخل التي لا تهرم، وهو المتحدث باسم الغلابة، وشاعر الثورة لعدة أجيال.

رأيته في الأيام الأسطورية لميدان التحرير، في بيته الريفي القريب من قريتي في الإسماعيلية منفعلا وسعيدا، يتحدث عن شباب ميدان التحرير، بغبطة وإعجاب ومحبة. يومها قال إنه مدين بهذه الفرحة في نهاية حياته لذلك الشباب المجهول، الجبار، لكنه يخاف عليهم، وعلى الثورة من "الطغمة التي تحكم".

وها هي رؤياه الجبارة تتحقق، ومخاوفه من انتصار الثورة المضادة تبدو في محلها تماما.

خايف أموت
من غير ما أشوف
تغير الوشوش
وتغير الصنوف
والمحدوفين ورا
متبسمين في أول الصفوف
خايف أموت وتموت معايا الفكرة
لا ينتصر كل اللي حبيته
ولا ينهزم كل اللي كنت أكره
اتخيلوا الحسرة!

ألقى شاعر مصر هذه الأبيات في بداية اللقاء، قبل أن يلتمس العذر للمناضلين السابقين، "مشكلة الجيل السابق هي في كم الضربات واليأس والخلافات والفراغ وعدم الإمساك بحقائق الواقع". وانتفاضة الشباب في 25 يناير "درس أربك القوانين الثابتة في رؤوسنا والأفكار التي تكلست والواقع يتغير ونحن لا نطور ما تعلمناه".

تعلمنا من الأستاذ على مر السنوات أن السلطة ضد المواطن على خط مستقيم.

يا عم الضابط انت كداب
واللى باعتك كداب
مش بالذل حاشوفكم غير
ولا استرجى منكم خير

عقود طويلة كان الأبنودي يضع التعريفات الشعرية الرائقة للثورة المستمرة، التي تعني صعود المهمشين إلى الصفوف الأولى، وليس مجرد تغيير "الوشوش" في الصفوف الأولى فقط.

لم ينس الرجل يومها وسط الاحتفال بإعصار الميدان أن الثورة في خطر، فخرج عن نص الاحتفالية بقرب رحيل مبارك، وانتصار الشعب، وهمة الشباب. استجمع صوته وتعبيرات وجهه، وأطلق تحذيره الحاسم: الثورة لن تتحقق بمجرد التخلص من مبارك، الثورة تبدأ بعد رحيله.

"مش يرحل مبارك يبقى القضية خلصت، تلك تفاصيل تلهينا عن الأهم، وليس معنى التحقيق مع أربعة أو خمسة من المسئولين السابقين أنك تنظف الطبقة من فسادها، فالفساد لا يخص بعض الوزراء، بل فساد النظام السياسي من أوله لآخره. هناك طبقة كاملة من الفاسدين والمفسدين".

في الستينيات كتب الأستاذ ديوانا علامة، اسمه "الزحمة". وفي طبعاته التالية أضاف إليه القصيدة التي حذفها رقيب ذلك العصر:

يا صاحبة اليوم اللي فات
يا ام العيون فيها السكات ميّات حاجات
هو بصحيح الحب أصبح ذكريات؟

أنا من سنة كام يا صبية باعشقك
دا من كذا وخمسين
بافكر في اللي كان ممكن يكون
لو كان سابوكي بين إيديا الطيبة
يا حبيبة

يتحدث عن مصر التي خطفتها حركة عسكرية في يوليو 1952، (كذا وخمسين) من عنفوان حركة ثورية شعبية، اشتعلت من منتصف الأربعينيات، حتى صادرها الجيش، ومازال.

وثورة "التنظيف" التي تمنى الأبنودي أن تبدأ فور الإطاحة بمبارك لم تبدأ. بل تعرضت للإجهاض عبر مراحل إخوانية وعسكرية، لنعود إلى مربع الألم الذي كتب منه الأبنودي قصائد الستينيات.

لم يتغير سوى الوجوه يا أستاذ، وهذه الطغمة، بتعبيرك، ما زالت تحكمنا.

"مصر أجمل وأعظم بكثير من هذه الطغمة التي هبطت علينا بالمظلات، وامتصت دم مصر. الرقصة كانت عنيفة في التحرير، وأخرجت كل السأم والملالة والعرق المتكدس فى أجسادنا، وماذا بعد؟ هناك فارق بين تغيير الوجوه وتغيير المجتمع من جذوره، وإلا يبقى ما عملناش حاجة، من أول محصل فاتورة الكهرباء، إلى مسؤول تراخيص التوك توك، إلى المسؤول عن صياغة التجارة الداخلية، الذي يقسم الكعكة مع كبار المستوردين التجار. يجب ألا نهدأ".

يعاني المواطن الآن أكثر من زمن مبارك يا أستاذ، مع الموظف المرتشي، والشرطة الظالمة غير النزيهة، والمسئولين المنافقين، والإعلام المنظم على طريقة الأوركسترا.

الرقصة أصبحت هذه المرة كئيبة، ومنحطة، وتأخذ بيد الجميع إلى ثورة جديدة على مرمى البصر، فالذي تغير هو "الوشوش" فقط.

الأبنودي شاعر، وليس زعيما سياسيا نحاسبه على التصريحات أولا بأول، وما قاله شعرا باق في وجدان هذا الشعب، وأهم من كل تصريحاته ولقاءاته التلفزيونية ومواقفه العابرة.

كل سنة وانت طيب يا أستاذ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved