كاتب (جميل) حقًّا

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الأربعاء 15 أبريل 2020 - 12:20 ص بتوقيت القاهرة

لا يعرف أغلب قراء الأدب اليوم اسم الكاتب جميل عطية إبراهيم الذى رحل فى سويسرا بعد أن عاش فيها أكثر من ٤٠ عامًا.
وعلى الرغم من طول المدة التى عاشها هناك إلا أن صلته مع مصر لم تنقطع إلا بعد أن هزمه المرض واضطرت زوجته لإلحاقه بمصحة للمسنين عقب إصابته بألزهايمر.
ومن أكثر المفارقات قسوة أن كاتبا مثله اعتنى طوال الوقت بالذاكرة والتاريخ عاش سنوات عمره الأخيرة بلا ذاكرة تقريبا
وليست هذه المفارقة الوحيدة فى حياته وهو الذى لعب الدور الرئيس فى تدشين ظاهرة كتاب جيل الستينيات بفضل جهده فى تأسيس مجلة جاليرى ٦٨ إلا أنه يكاد يكون الكاتب الوحيد من بين كتاب هذا الجيل الذى فاته قطار التكريم ولم يحصل من الدولة أو من غيرها على أى جائزة تقديرا لكتاباته التى اعتنى بها كبار النقاد.
وكان هذا التجاهل من أثمان الغربة التى تقبلها بمنتهى الرضا..
وطوال عشرين عاما عرفته فيها عن قرب لم أسمع منه شكوى أو تعليقا يخص هذا الموضوع أو غيره من الموضوعات التى يثيرها المبدعون عادة سواء عن استحقاق أو بدافع الحسد.
وظل فقط يعتز بنزاعه القضائى للحصول على عضوية اتحاد الكتاب التى تم حرمانه منها لأنه كان من بين اليساريين الذين استبعدهم المرحوم يوسف السباعى عند التأسيس وكان يقول إن صاحب (رد قلبى) لم ينس أبدا أن جاليرى ٦٨ نشرت دراسة تنتقد أعماله على الرغم من الدعم المالى الذى قدمه للمجلة بغرض استيعاب تمرد كتابها.
وكانت تجربة جاليرى ٦٨ واحدة من بين أكثر التجارب التى أحبها جميل واعتز بدوره فيها، وظل وفيا لأقرانه الذين شاركوه هذا الحلم وكان أقربهم إليه بهاء طاهر رفيق غربته السويسرية وإبراهيم أصلان ابن البلد التى تقاطعت روحه المرحة مع روح جميل فى مساحات كثيرة.
واعتز أكثر بصلته العميقة مع الكاتب العظيم يحيى حقى ولا يمل من ذكر مآثره، فقد تعرف عليه عن طريق الناقد إبراهيم فتحى ولما كان جميل دارسا للموسيقى نصحه الأصدقاء بمراجعة معلوماته فى الموسيقى الكلاسيكية استعدادا لأول لقاء بينهما، وخلال اللقاء اقتحمت الغرفة أصوات بائع جرجير كان ينادى على بضاعته فسأله يحيى حقى يا ترى البياع دا بيغنى من مقام ايه؟
فلم يرد لكن حقى نظر له وقال بلطفه المعهود :(يا جميل يصح قبل ما نعرف بيتهوفن وموتسارت نعرف معاهم سيد درويش ويوسف المنيلاوى فكان هذا هو الدرس الأول، أما الثانى فقد حدث بعد أن توطدت العلاقة بينهما وفى غمرة نقاش حول نجيب محفوظ فى مجلة (المجلة) قال بعض الحضور إن نجيب محفوظ كاتب البورجوازية الصغيرة فتحمس جميل للرد هو وصديقه المغامر إبراهيم منصور إلا أن يحيى حقى تدخل ومال على أذنه قائلا: (بلاش احنا نتورط لأننا من البورجوازية القصيرة، وضحك الحضور لأن حقى وجميل كانا من قصار القامة).
وفى زياراته التى لم تنقطع أبدا كان أكثر ما يحرص عليه جميل اللقاء مع الأصدقاء على مقهى زهرة البستان وجمع أكبر عدد من الأعمال الأدبية الجديدة ليقرأها لكى لا تنقطع صلته بالأدب المصرى الجديد.
وفى رسائله الإلكترونية التى كتبها لى كان يشير للنصوص التى استوقفته ويطلب تليفونات أصحابها ليتعرف عليهم وكانت بعض مكالماته تمتد معهم لساعات.
لم تخل روحه أبدا من الألفة وانطوى سلوكه معنا على أبوة وحنو وعاملنا كما تعامل يحيى حقى مع جيله.. تصرف بروح الراعى التى لم يماثله فيها الا الراحل علاء الديب الذى كان حنونا فى صمته وتأملاته، فى حين كان جميل ميالا للتدفق دائم التوقف أمام كثير من التفاصيل التى تخص سنوات طفولته فى مصر القديمة ودروس الموسيقى التى تعلمها فى الكنيسة وحيرته أمام طلاسم أول نوتة موسيقية تأملها.
وتجاربه فى العمل بالثقافة الجماهيرية وقت عزها وكثيرا ما تقفز إلى مخيلته أطياف تجربة إقامته بالمغرب وقيامه بتدريس الرياضة فى مدارس (أصيلة) التى سجلها فى روايته التى تحمل نفس الاسم.
ومن المؤسف جدا أنه مات قبل أن تتحقق آخر الأمنيات التى تمناها وهى أن تقوم مكتبة الأسرة أو إحدى دور النشر الكبرى بإعادة طبع ثلاثيته الروائية الشهيرة التى كتبها عن يوليو وتحمل تواريخ دالة فى مسيرتها ( ١٩٥٢/١٩٥٤/١٩٨١) وهى ثلاثية تبدأ من النقطة التى انتهت عندها ثلاثية نجيب محفوظ وتعبر عن تصور جيله عن الخذلان وتراجع الأمل الذى كان الشغل الشاغل لكاتب مثله أراد طوال الوقت أن يترك شىء للأجيال الجديدة قبل ان يذهب إلى النهاية وهو (جميل)
كما كان دائما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved