بعد الجائحة.. فرصة لإعادة بناء النظم الصحية الوطنية فى العالم العربى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأربعاء 15 أبريل 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

نشرت مبادرة الإصلاح العربى مقالا للكاتب فادى الجردلى حول أهمية تعاون الجهات الحكومية وغير الحكومية فى الدول العربية لمواجهة وباء كورونا فى ظل هشاشة أنظمتها الصحية، إلى جانب ما تشكله الأزمة من فرصة لإعادة رسم العلاقة بين الجهات الحكومية وغير الحكومية لتحسين النظم الصحية... نعرض منه ما يلى:
مع تواصُل ارتفاع حالات الإصابة الجديدة بفيروس كورونا المستجَد، تكافح البلدان حول العالم للتخفيف من تأثيرات الفيروس على الصحة العامة وتأثيراته الاقتصادية. لقد فاق التدفق الهائل للمرضى قدرات الأنظمة الصحية الوطنية وسط النقص الحاد فى موظفى الرعاية الصحية الأكفاء واللوازم الطبية الأساسية. وأصبح من الواضح بصورة متزايدة أنّ الاستجابة الفعالة للجائحة تتطلب نهجا يشمل الحكومة بأكملها والمجتمع بأسره. ويستدعى هذا الموقف استجابةً تعاونية تعتمد على قدرات وموارد الجهات الفاعلة المتعددة القطاعات والجهات الحكومية وغير الحكومية، التى تضمّ مؤسسات خاصة ربحية وغير ربحية، بما فى ذلك منظمات المجتمع المدنى. وقد ساعدت التطورات الأخيرة فى جميع أنحاء العالم فى إظهار كيفية تفاعل الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية فى مواجهة جائحة فيروس كورونا. وعلى سبيل المثال، فى إنجلترا، دخلت هيئة الخدمات الصحية الوطنية فى اتفاقية مع القطاع الخاص لإعادة تخصيص قدرات المستشفيات الخاصة لصالح الهيئة. وفى أيرلندا وإسبانيا، جعلت الدولة جميع المستشفيات الخاصة عامةً طوال فترة أزمة فيروس كورونا.
أمّا فى العالم العربى فتُعد استجابة المجتمع بأسره لجائحة فيروس كورونا حاسمةً من حيث الأهمية، فقد أصبحت البلدان تعتمد بشكل متزايد على الجهات الفاعلة من غير الدول، ولا سيما القطاع الخاص، لتوفير الرعاية الصحية، وإنّ أى استجابة تشمل الدولة وحدها قد لا تكون كافية للتصدى للجائحة. بالإضافة إلى ذلك، هناك اعتراف متزايد بالحاجة إلى نماذج جديدة للتعاون بين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية لتسريع التقدم نحو التغطية الصحية الشاملة. ومع ذلك، ثمّة تساؤلات حول كيفية تعاون الجهات الحكومية وغير الحكومية فى الدول العربية لتقديم خدمات رعاية صحية عالية الجودة للجميع. وكشَف انتشار الجائحة عن أنماط مشتركة بين الدول العربية يمكنها أن تساعد فى بلورة رؤى حول الدور المستقبلى للجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية.
دور الجهات الفاعلة غير الحكومية فى الاستجابة لجائحة كورونا فى العالم العربى
انخرطت الدول فى العالم العربى مع القطاع الخاص بدرجات متفاوتة وبطرق مختلفة فى مواجهة جائحة كوفيدــ19. وعلى سبيل المثال، فى دولة الإمارات العربية المتحدة، أتاحت شبكة خاصة من مقدمى الرعاية الصحية الموظفينَ والأسِرّة فى المستشفيات عند حاجة السلطات الحكومية لها. وفى البحرين، منحت الدولة التراخيص لمقدمى الرعاية الصحية من القطاع الخاص ممن يستوفون معايير منظمة الصحة العالمية للتعامل مع كوفيدــ19 من أجل تقديم الخدمات للمرضى الذين يفضلون الدفع مقابل الرعاية فى القطاع الخاص. وأعربت المنظمات غير الحكومية فى العراق عن استعدادها لدعم الحكومة من خلال توزيع مستلزمات النظافة وتدريب العاملين الصحيين ومراقبة الحماية وتوفير الأموال للأسر المتضررة.
وفى الوقت نفسه، أظهرت جائحة فيروس كورونا أنّ المشاركة المنتظمة والشاملة مع الجهات الفاعلة من غير الدول تبدو غائبة عن الاستجابة الوطنية للبلدان. وتتطلب الوقاية الناجعة والمكافحة الفاعلة لانتشار كوفيدــ19 استجابةً عالية التنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية فى توفير نطاق واسع من الخدمات، بما فى ذلك الوقاية من فيروس كوفيد ــ 19 ومكافحته والحفاظ على الخدمات الأساسية.
وحتى فى البلدان التى وضعت فيها الحكومة سياسات للتعامل مع الجهات الفاعلة غير الحكومية، كان هناك غموض وعدم اتساق فى التنفيذ. ويمكن ملاحظة ذلك فى لبنان، فعلى الرغم من هيمنة القطاع الخاص فى تقديم الخدمات، والقرار الوزارى بإشراك القطاع الخاص فى مكافحة انتشار فيروس كورونا، إلا أنه لا توجد خطة واضحة للتنسيق بين الحكومة والجهات الفاعلة غير الحكومية. ولربما يُعزى ضعف مشاركة المستشفيات الخاصة فى لبنان إلى ارتفاع تكاليف العلاج، والحاجة إلى تدابير السلامة ومكافحة العدوى، وتأخّر تعويضات المسدّدين من الأطراف الثالثة.
علاوة على ذلك، تُركز جهود البلدان بشكل أساسى على إشراك مستشفيات ومختبرات القطاع الخاص لسد الثغرات فى توفير الدولة للرعاية والتغطية الصحيّتين، على الرغم من الدور المهم الذى يمكن أن تؤديه الجهات الفاعلة الأخرى مثل مراكز الرعاية الصحية الأولية ومرافق دور التمريض والمجتمع المدنى فى توسيع الخدمات الحيوية، مثل تثقيف المجتمعات وتمكينها ضد الانتشار الفيروسى وتوفير الدعم والرعاية الاجتماعية للسكان القابلين للتأثُّر.
إعادة تصوّر دور الدولة فى العالم العربى بعد جائحة فيروس كورونا
كشفت جائحة فيروس كورونا عن هشاشة النظم الصحية فى جميع أنحاء العالم. وفى العالم العربى، حيث تعانى النظم الصحية أصلا من الإجهاد بسبب النزاعات المسلحة والسكان النازحين، من المتوقع أن يزيد الوباء من تفاقم الهشاشة ويعمق نقاط الضعف. ومع أن الجائحة سوف تتسبّب بعواقب صحية واقتصادية خطيرة لسنوات قادمة، إلا أنها تُمثّل فرصةً ثمينة لإعادة تصوُّر دور الجهات الحكومية وغير الحكومية فى تعزيز النظم الصحية.
• الدولة كجهة تنسيق وتنظيم للأنظمة الصحية
ينبغى لحكومات الدول العربية أن تتولى القيادة فى تنسيق الأدوار والمسئوليات فى تقديم خدمات الرعاية الصحية عبر الجهات الحكومية وغير الحكومية. ويتعيّن أن تُسخّر الجهات الفاعلة من غير الدول للمساعدة فى تلبية الأولويات الوطنية، بما فى ذلك دور القطاع الخاص فى التغطية الصحية الشاملة، وضمان أن تتماشى جميع الجهات الفاعلة مع هذه الأولويات. وثمة حاجة إلى تنسيق قوى لضمان أن تعمل جميع القطاعات بصورة تعاونية لتحقيق استجابة كاملة من الحكومة والمجتمع بأسره لمواجهة التحديات الوطنية الملحة وبناء أنظمة صحية وقادرة على الصمود.
إن مشاركة البيانات والشفافية ضروريتان لتعزيز التعاون بين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية. لقد أظهرت هذه الجائحة أنّ تبادل المعلومات فى الوقت الحقيقى جزء لا يتجزأ من الاستجابة الفعالة. ومع ذلك، ما يزال نقص تبادل البيانات والتقارير الشفافة يُضعِف النظم الصحية فى المنطقة، حتى فى وقت الأزمة هذا، وهو ما يُبرِز حاجة الحكومات إلى تعزيز التنظيم وتعزيز المساءلة وبناء الثقة المتبادلة. لقد شهِدنا فى السنوات الأخيرة قيام الحكومات فى المنطقة بدور أقوى فى التنظيم، وعلى سبيل المثال، فى البحرين، تحوّل دور الدولة من تقديم الخدمات الصحية إلى دور التخطيط والتنظيم، وفى لبنان طبّقت وزارة الصحة العامة العديد من الإصلاحات بما فى ذلك التعاقد القائم على الأداء. ومع ذلك، تحتاج الحكومات إلى تكثيف هذه الجهود، وهناك حاجة إلى آليات تنظيمية مبتكرة محددة تبعا للسياق لضمان أن تفى الخدمات التى تقدمها الجهات الفاعلة من غير الدول بالمعايير وأن تكون فعالة ومنصفة.
• نحو رسم سياسات صحة عامة تسترشد بالأدلة
أظهر تفشّى فيروس كورونا وجود نقص حاد فى المنطقة على صعيد الخبرة فى مجال الصحة العامة، وحتى فى البلدان التى تتوفر فيها الخبرة، لم تستخدم الحكومات هذه الخبرة لمواجهة الأزمة. وبدلا من ذلك، غُلّبت الاعتبارات السياسية والاقتصادية على التوجيهات الصحية. وعلى سبيل المثال، ساهمت العوامل السياسية فى مصر ولبنان على الأرجح فى تأخير القرارات الحكومية بالاستجابة السريعة لتهديدات جائحة فيروس كورونا.
فى الأزمات التى تكون على هذا القدرِ المدمِّر من الحجم والحِدّة، يمكن لاستخدام أفضل الأدلة المتاحة أن يُحدث فرقا بين الحياة والموت. لكن يبقى أمامنا سؤال رئيسى حول كيف يمكن دمج الخبرة فى مجال الصحة العامة فى عمليات صنع السياسات فى الدولة لضمان جهوزية الحكومات واستجابتها للأزمة باستخدام أفضل الأدلة المتاحة بشأن الأساليب الناجعة؟ يمكن أن تؤثر الترتيبات التنظيمية المختلفة فى مستوى التكامل والمأسسة بين الخبراء وصنّاع السياسات، ويشمل هذا اللجان داخل الوزارات، ومنصات ترجمة المعرفة، والمنظمات الخارجية الممولة من القطاع العام، والمنظمات غير الحكومية المستقلة. ومع ذلك، هناك حاجة إلى مزيد من البحث حول الترتيبات الفعالة لمأسسة الأدلة فى سياق رسمِ سياسات الصحة العامة المتفرّدة فى البلدان العربية.
• العمل المتعدد القطاعات لقيادة الابتكار والتكنولوجيا
أصبح من الواضح الآن أكثر من أى وقت مضى أن التقنيات الجديدة مثل استخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعى ضرورية لتقديم استجابة فعالة على صعيد الصحة العامة، لا سيما لتحديد الحالة واحتواء الجائحة. على سبيل المثال، فى تايوان، جرى تعقُّبُ الأشخاص فى الحجر الصحى باستخدام تقنية مشاركة الموقع على هواتفهم المحمولة. وعلى الصعيد العالمى، استُخدِمت روبوتات الدردشة لإحاطة السكان بمعلومات محدَّثة حول الفيروس ومساعدة مقدّمى الرعاية الصحية فى تقييم مدى خطورته لدى المرضى.
ثمة أوجه اختلاف كبيرة فى توافر الأدوات التكنولوجية وإمكانية الوصول إليها بين البلدان العربية وبين القطاعين الخاص والعام، فضلا عن الوضع غير المواتى الذى تعانى منه البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل والقطاعات العامة والخاصة. وأدت جائحة فيروس كورونا إلى تعميق هذه الفجوة الرقمية، إذ يقلّ احتمال وصول السكان الذين لديهم إمكانيةُ وجودةُ وصولٍ أقل فى الحصول على المعلومات وإرشادات الوقاية ويصبحون عرضة للمخاطر الصحية. إن تسريع استخدام التكنولوجيا الجديدة، مثل الاستفادة من الذكاء الاصطناعى، والتعلم الآلى، والبيانات الضخمة والأدوات الرقمية، لتحقيق نتائج أفضل فى الصحة العامة وضمان تكافؤ الوصول إلى التكنولوجيا هى مجالات ذات أولوية بالنسبة للدولة لقيادة التعاون متعدد القطاعات بين مختلف الأنواع من المنظمات والقطاعات.
• نحو الاعتراف بالصحة كحق أساسى من حقوق الإنسان
لقد تطلَّب الأمر من البلدان جائحةً لإدراك أننا نعيش فى عالم واحد وأن التفاوتات الاجتماعية ومشكلات الإنصاف ستضر بنا جميعا على حد سواء. وقد كشفت جائحة فيروس كورونا عن أوجه تفاوتٍ وعدم مساواة فادحة فى النظم الصحية فى جميع أنحاء العالم. فى العالم العربى، حيث تعيش نسبة كبيرة من السكان فى بلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، أو من اللاجئين أو العمال المهاجرين، مِن المتوقع أن تتسع أوجه التفاوت الموجودة. ويلزم عاجلا أن تعيد الحكومات التفكير فى نماذج تعاونها مع الجهات الفاعلة من غير الدول لضمان أن تكون التغطية الصحية الشاملة، واعتبارات المساواة والعدالة الاجتماعية فى صميم النظم الصحية. لقد ذكّرنا الوباء بأن الصحة حق أساسى من حقوق الإنسان وليست سلعة، وأنّ نجاح الجهود المبذولة لاحتوائه يعتمد على حماية جميع شرائح المجتمع. ولقد حان الوقت لتنهض الحكومات بدورها فى حماية هذا الحق للجميع من خلال الاستفادة من مختلف القدرات فى مجتمعاتها.

النص الأصلى من هنا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved