المحاكمة بين عهدين.. متكاملين

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 15 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تداهمك عشرات الأسئلة وأنت تتابع مشاهد محاكمة الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك مع نجليه علاء وجمال وكبار معاونيه وبالذات منهم وزير داخليته حبيب العادلى فضلا على كبار المستفيدين من عهده نفوذا وثراء واستيلاء على أملاك الدولة.

 

بين تلك الأسئلة التى تظلل المشهد: من يحاكم من؟ من المدعى، فعلا، ومن هو المتهم؟ وما هى وجوه الاختلاف والتشابه بين نظام الطغيان الذى أسقطه «الميدان» وبين نظام الإخوان الذى يتبدى عبر المحاكمة وكأنه يحتضن «سلفه» ويحاول مجاملة الرئيس المخلوع حتى ليكاد يعتذر منه؟ّ

 

وبغض النظر عن طبيعة سير المحاكمات بمرافعات الدفاع المعززة بجماهير مؤيدى الرئيس المخلوع وارتباك القضاة وتقصير النيابة العامة وحسرات أهالى الضحايا فى «الميدان» ومن حوله، فإن التدقيق فى كل تلك الوقائع يجعلها أقرب إلى إخراج مسرحى ناجح لعملية «تحالف واقعى» بين عهد الطغيان ووريثه عهد الإخوان!

 

أما إذا وسعت دائرة النظر من حول مسرح المحاكمة فلسوف تكتشف أن أدلة الإثبات قد أتلفت أو أخفيت وأن المناخ المحيط بالمحكمة يرهب القضاة وأن معاملة المتهمين بالجرائم التى رافقت سقوط حكم الطغيان قد «زادت فى الرقة حتى انفلقت».

 

كذلك فإنك سوف تكتشف أشباح دول، عربية وأجنبية كثيرة، تتحرك من حول المحكمة وداخلها.. ذلك أن أكثر من نظام عربى يرى نفسه جنبا إلى جنب مع حسنى مبارك وأركان عهده إما بصفة «صديق» أو «شريك» فى «الأعمال»التى بات عنوانها سياسيا فى الغالب. وبالتالى فهو ينظر إلى محاكمة الفرعون على أنها محاكمة لكل «الفراعين»، لاسيما من كانوا يرون أنفسهم «أصدقاء»، وبعضهم يفترضون أنهم «شركاء» وقد حاولوا سحب أياديهم فى اللحظة الأخيرة ثم لما انتبهوا إلى هوية «الوريث» تأكدوا أنه ما زال بوسعهم أن يكونوا شركاء مع «ورثة الطغيان»... الصديق.

 

●●●

 

ما بين المحاكمة الأولى للرئيس المخلوع والمحاكمة الثانية انتقل «العهد الجديد» من موقع «النائب العام» الشرس الذى يفترض أنه يحاكم عهدا من الفساد واستغلال السلطة واضطهاد الشعب وصولا إلى حد القتل، إلى موقع أقرب إلى «الشاهد الأخرس» وقد نسى أو انسى جوهر «القضية»: غيبت الجرائم السياسية الخطيرة وتم تقزيم قضايا الفساد الكبرى.

 

ومع التنويه باحترام المحكمة لموقع الرئيس المخلوع إلا أن هذا الاحترام إنما تم على حساب الحق والحقيقة والأسباب الفعلية لاضطراره إلى «التنحى». فالرئيس السابق لم يتنح طوعا، وإنما بالأمر... الأمرىكى، كما هو معروف، وكحركة التفاف على «الميدان» حتى يسكر بتنحى الطاغية وينسى أو يهمل محاسبة عهده جميعا، وعلى سياساته التى أدت إلى تهاوى مكانة مصر عربيا بل وفى العالم، كله، وبعد ذلك يمكن فتح ملفات الفساد وتبنيها بدءا من الصفقات المشبوهة لبيع الغاز والكهرباء إلى إسرائيل بأقل من أسعار التكلفة، وصولا إلى النهب المنظم للمال العام عبر صفقات «منح» الأراضى الأميرية للقطط السمان التى كان ربى بعضها نظام أنور السادات ثم زادها عددا وثروة نظام مبارك.

 

لقد حكم حسنى مبارك مصر ثلاثين سنة طويلة. ومع التنويه بأنه لم يلجأ إلى العنف المباشر فى مواجهة الجماهير إلا فى الأسابيع الأخيرة، إلا أن ثمة ما هو اخطر إذا كان المراد المحاسبة عن الثلاثين سنة من الحكم المطلق: فقد فقدت مصر قيمتها ودورها على المستوى العربى، وصارت مجرد ملحق بالسياسة الأمريكية، بل وتجرأت عليها إمارات ومشيخات ودول ما كان لها أن تتطاول لو أن الحكم فى مصر كان جديرا بحفظ كرامة مصر.

 

إن الخطأ السياسى أفدح ضررا بما لا يقاس. ورئيس الدولة ليس شرطيا أساء استخدام سلاحه ضد مواطن، ولكنه ارتكب ما ذهب بقيمة البلاد.

 

وما ينطبق على حسنى مبارك فى مصر ينطبق على نظرائه فى البلاد العربية التى انتفضت شعوبها فأطاحت بهم أو هى لا تزال تحاول. لقد كانوا مجموعة من الديكتاتوريين الطغاة الجهلة والمنفردين بالقرار. وهكذا فإنهم أساءوا إلى كرامة الشعب ثم إنهم دمروا قدرات الوطن وضربوا الاقتصاد الوطنى وخربوا التعليم الرسمى تاركين الأجيال الجديدة تحت رحمة المدرسة الخاصة والجامعة الخاصة والمدرس الخصوصى والبرامج الموضوعة لبلاد أخرى تعيش ظروفا مختلفة تماما عن ظروف بلادهم.

 

●●●

 

إن أنظمة الطغيان قد ضربت ركائز الحياة السياسية فعطلت إرادة الناس ثم فرضت عليهم إلغاء شخصياتهم وهويتهم الوطنية. صارت الانتخابات مزورة، بل ومهينة، إلى حد أنه فى أحيان كثيرة لم يكن الاستفتاء بحاجة إلى مستفتين فالنتيجة مقررة سلفا سواء شارك خمسة فى المائة أو عشرة، إذ سيعلن أن 95 فى المئة على الأقل قد قالوا: نعم!

 

لا يعنى هذا الكلام المطالبة بإنزال عقوبة الحد الأقصى بالطغاة، بل يعنى أساسا ضرورة المحاكمة الجدية والشاملة عن تخريب المجتمعات وضرب الشعور الوطنى وامتهان كرامة المواطن... فضلا عن تقريب التافهين والمرتشين والفاسدين، وعن «منح» من لا يستحق ما لا يجوز أن تتخلى عنه الدولة من حقوقها.

 

فى مصر، كما فى العديد من الأقطار العربية، تسببت عهود الطغيان بتخريب مستقبل الأمة وليس حاضرها فحسب: انهار مستوى التعليم من الابتدائى إلى الجامعة، نهبت خيرات البلاد بمراسيم جمهورية، حرم المواطن من كرامته، وأذل أمام المؤسسات التى بنيت بأمواله (الجامعات، المستشفيات، الإدارات الحكومية، التموين، الكهرباء والمرافق).. ودفعت الكفاءات وأصحاب المستويات العلمية إلى الرحيل فهاجروا إلى حيث يبيعون علمهم ويعيشون بكرامة، فى حين أن بلادهم أولى بهم خصوصا وأنها بحاجة إليهم.

 

لقد أذل كل طاغية عشرات الملايين من رعيته. وكان يرى انه يكبر بقدر ما يفرض الصغر على شعبه، لأنه ليس مؤهلا لأن ينجز ما يجعله كبيرا فعلا.

 

وها هم العرب فى مختلف ديارهم، سواء تلك الغنية بمواردها من الذهب الأسود أو الأبيض، أو تلك الفقيرة أرضها وان كانت غنية بكفاءات أهلها، يعيشون خارج الزمن، تهيمن على قرار دولهم ـ الغنية قبل الفقيرةـ الإرادة الأجنبية، ويذلهم الإرهاب الإسرائيلى فيفرض عليهم شروط أمنه وتعاظم اقتصاده وزيادة أعداد المستوطنين وشروط زيادة الموارد الطبيعية على حساب حقوق أصحاب الأرض فى أرضهم، ويصادر قضيتهم المقدسة فلسطين ويجتاح ما تبقى للفلسطينيين من أرضهم بالمستوطنات وفيها بجيوش المستقبل.. وكل ذلك خطر فى نتائجه العملية على المصريين كما على الليبيين والتوانسة، كما هو خطر على سوريا التى تسبب تعسف نظامها ورفضه المبادرة إلى مواجهة مسئولياته الوطنية بالحرص على البلاد وشعبها، وفتح أبوابها أمام أشتات الإرهابيين الوافدين من مختلف أرجاء العالم الإسلامى وقد جاءوا بزعم هداية أهل الإسلام إلى الدين الحنيف الذين لا يعرفون أن يقرأوا نصه المقدس، فكيف بأن يفهموه.

 

وبالعودة إلى الصور المحزنة لمجريات محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك يمكن القول براحة ضمير: إن العهد الإخوانى «يحاكم» سلفه من موقع «الحليف». لكأنه يخاف أن يحاسبه، حقيقة، على إنجازاته الثقيلة التى اضطرته فى نهاية الأمر إلى «التنحى».. بالأمر الخارجى، قبل أن يكون قراره هذا خضوعا لإرادة شعبه.

 

●●●

 

لقد تبدى الفارق واضحا بين جولتى المحاكمة، حتى فى الشكل، وإن ظل جوهر المحاكمة غائبا فى الحالين: من نائم على سرير، يؤتى به فى سيارة إسعاف ويعاد إلى المستشفى فى طائرة خاصة، إلى الجالس باعتداد على كرسيه وقد طرأ تغيير جوهرى على مبدأ المحاكمة: هل هى على تفاصيل فى ممارسة السلطة أدت إلى بعض الضرر ويمكن أن يكتفى ـ لتأديبه ـ بالفترة التى قضاها فى السجن، أم هى اخطر من ذلك بكثير، ولكن فتح الباب لمحاكمة حقيقية سيدخل إلى المحكمة «القضايا الأصلية».. وعندها قد يخسر العهد الإخوانى «جماهير» الرئيس السابق، وقوى النفوذ التى ساندته حتى اليوم الأخير ووضعت حدا لسقف محاكمته حتى لا يصيب عواصم القرار العالمية، ومن ضمنها إسرائيل، فضلا عن أصدقائه العرب؟ّ

 

هل اشترى عهد الإخوان تركة حسنى مبارك ليحصلوا على شهادة حسن سلوك ممن سانده فى حكم مصر لثلاثين سنة طويلة.. فى حين كشفت الأيام انه لم يكن مؤهلا لأن يشغل مثل هذا المنصب الخطير؟

 

هل الحكم على حسنى مبارك سيسجل رصيدا إضافيا فى حساب الرئيس مرسى.. أم انه سيؤكد وجوه التشابه بين الحكم الفردى وحكم الحزب الواحد الذى لا يقبل غيره شريكا؟!

 

إن هذه المحاكمة مدخل شرعى إلى تجديد الثورة حتى لا يذهب الميدان ضحية عهد جديد قد يكون أقسى من سابقه الديكتاتورى.

 

لقد تحولت هذه المحاكمة المسيئة إلى روح العدالة إلى محاكمة للشعب وثورته المجيدة.

 

 

 

رئيس تحرير جريدة « السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved