إدارة الخلافات فى مصر

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 15 مايو 2016 - 11:20 م بتوقيت القاهرة

فى ختام العام الجامعى يلحّ على دوما تساؤل عن جدوى ما أقوم به من عمل فى تدريس العلوم السياسية للطلبة فى جامعتى القاهرة والجامعة الأمريكية بالقاهرة، هل يفيدهم علم السياسة فى فهم ما يجرى من أحداث فى العالم؟ وهل يطرح عليهم مخرجا من الأزمات التى تعصف بعالمنا العربى وببعض الأقاليم خارجه؟ ليس من المهم أن يكون من الصعب الأخذ بهذه المخارج فى التو والحال، فلا يمكن توقع ذلك فى قضايا معقدة وشائكة، ولكن هل تتضمن نظريات واجتهادات من قضوا حياتهم يتأملون واقع علاقات القوة بين البشر إشارات لما يمكن معه إقامة هذه العلاقات على نحو أكثر رشدا؟ طرحت هذا السؤال على بعض طلبتى، وكانوا كرماء معى فقد أجابوا عليه بالإيجاب، وسرتنى الإجابة، ولم أشأ أن أطلب منهم مزيدا من التوضيح، فلم يكن ذلك موضوع المحاضرة، ولكن استغرقنى بعدها التفكير فى تلك الإجابة، وقررت أن أعرض بعض ما انتهيت إليه على قراء هذه الصحيفة لعلهم يشاركوننى الرأى فى حكمة استرشاد أوضاعنا السياسية بما انتهى إليه دارسو علم السياسة. وسأشرح فى هذا المقال خلاصة عدد من اجتهاداتهم. وأقربها إلى اهتماماتنا فى الوقت الحاضر، ولذلك فسوف أقتصر على ما يقوله علم السياسة بشأن كيفية التعامل مع الاختلافات السياسية، وقواعد الحكم الرشيد، وأسس شرعية النظام السياسى.

***

كيفية التعامل مع الاختلافات السياسية
يسلم علم السياسة بأن التنوع فى المصالح والقيم والاتجاهات هو سمة أساسية للطبيعة الإنسانية، ومن ثم فمما يخالف الطبيعة الإنسانية أن يتوقع من يملكون زمام الأمور فى أى دولة أن تتوقف هذه الاختلافات بين المواطنين، أو أن يكون لهم رأى واحد فى أى قضية. بل ويشهد تاريخ النظم السياسية والاجتماعية المعاصر أن تلك النظم التى سعت للتغطية على هذه الاختلافات أو إنكارها بدعوى أنها تفت فى عضد الوحدة الوطنية أو حاولت وضع حدود لهذه الاختلافات على أن بعضها مشروع فى إطار الأسرة الواحدة، وبعضها الآخر غير مسموح به لأنها خلافات عدائية، مثل هذه النظم سقطت، لم تعمر أكثر من عقدين فى حالة النظم الفاشية والنازية فى ألمانيا وإيطاليا، وأقل من ثمانى عقود فى حالة النظام الشيوعى فى الاتحاد السوفيتى، وعلى العكس من ذلك فإن النظم الليبرالية التى عرفتها دول غرب أوروبا والولايات المتحدة قد استمرت على الرغم من كل الأزمات الحادة التى واجهتها إلى حد دعا مفكرا أمريكيا هو فرانسيس فوكوياما إلى الادعاء بأنه بسقوط كل النظم المعادية لليبرالية تأكد ليس فقط الانتصار الحاسم لليبرالية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بالقول بأنه مع اختفاء هذه النظم انتهى التاريخ، ولم يعد للإنسانية مستقبل إلا فى ظل الليبرالية. طبعا هناك كثيرون اختلفوا مع فوكوياما فى تنبوئه بانتهاء التاريخ مع عدم احتمال أن تكون هناك صراعات أخرى تعرفها الإنسانية سواء مع الليبرالية أو حول قضايا محورية أخرى، ولكن مثل هذه الاعتراضات لا تنكر صحة الاستنتاج بأن النظم الليبرالية أكثر صمودا أمام أزماتها بالمقارنة بالنظم غير الليبرالية. فما هو السبب فى ذلك؟

السبب فى ذلك أن هذه النظم أكثر واقعية فى النظر إلى التنوع الأساسى بين البشر وما يترتب عليه من اختلافات فى المصالح والقيم والاتجاهات. هى تعترف بهذه الاختلافات وتسمح بالتعبير الفردى والجماعى عنها، وبالتنظيم المهنى والسياسى على أساسها. هناك خلافات فى المصالح بين العمال وأصحاب رءوس الأموال، وبين المستهلكين والمنتجين، وهناك خلافات فى القيم بين المتدينين والعلمانيين، وبين أنصار البيئة وبين من يحبون ألا تقف أى ضوابط أمام حمى الاستهلاك أو الإنتاج. فليعبر كل هؤلاء عن رؤاهم الخاصة ويترك الأمر للمواطنين الذين يختارون من يعتبرونه أصلح للحكم لفترة محدودة يعود بعدها للمواطنين من جديد يجددون تفويضه للحكم من جديد، أو يضعون فريقا آخر محله وذلك من خلال انتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة للجميع، أما إذا دار الخلاف على قضايا أضيق نطاقا فهى تحسم من خلال المفاوضات الجماعية، مثل تلك التى تدور بين نقابات العمال واتحادات أصحاب العمل وبرعاية الدولة. فى مثل هذا التفاعل السياسى فى المجال العام من خلال الإعلام والمؤسسات النيابية ومنظمات المجتمع المدنى يندر أن يتمكن طرف من فرض إرادته المطلقة، وينتهى الأمر ليس فقط بحلول وسط، بل قد يجد طرف الحكمة فيما يطرحه طرف آخر، ويتبنى موقفه متجاهلا أن ذلك ما كان يدعو إليه الطرف الذى يختلف معه. ولذلك نجد استمرارا لجوهر السياسات على الرغم من انتقال السلطة من أحزاب اليمين إلى أحزاب اليسار فى فرنسا، ومن حزب العمال إلى حزب المحافظين فى بريطانيا، ومن الحزب الجمهورى إلى الحزب الديمقراطى فى الولايات المتحدة. نزاهة الانتخابات وحريتها ويقظة الرأى العام من خلال إعلام منفتح على جميع وجهات النظر هى التى تؤدى إلى سقوط أصحاب السياسات الفاشلة وقدوم أصحاب الأفكار الجديدة إلى السلطة على نحو يسمح بالتكيف مع أوضاع جديدة، ويقبل الخصوم صحة هذه الأفكار الجديدة، فواصل حزب المحافظين فى بريطانيا سياسات الرفاهة الاجتماعية التى تشمل تقديم خدمات التعليم والصحة والإسكان مجانا وتوفير إعانات البطالة وهى السياسات التى كان حزب العمال قد أدخلها بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك بثلاثة عقود انتهج حزب المحافظين سياسة خصخصة القطاع العام وتبعه فى ذلك حزب العمال بزعامة تونى بلير بعد وصوله إلى السلطة فى سنة 1993. هكذا تكيفت هذه النظم مع أوضاعها المتغيرة بفضل اعترافها بمشروعية الاختلافات بين البشر وأقامت هياكل وأساليب للتعامل مع هذه الاختلافات على نحو سلمى. ولذلك أصبحت أكثر استقرارا ودواما من تلك النظم السلطوية التى اعتبرت أن الاختلافات السياسية ضارة بالوحدة الوطنية أو بمصالح الطبقة العاملة، ومن ثم وارتها شعوبها التراب بعد عقود لم تطل كثيرا فى حساب التاريخ.

الحكم الرشيد

مفهوم آخر تطرحه العلوم السياسية كشرط لنجاح التنمية، وهو إلتزام النظام السياسى بعدد من القواعد تكفل رشادته، أى نجاحه فى الوصول إلى غاياته بأقل تكلفة ممكنة. من أهم هذه القواعد الالتزام بحكم القانون، ورشادة عملية صنع القرار، والإفساح للشفافية فيما يضعه وينفذه من سياسات، وتوسيع نطاق مشاركة المواطنين فى صنع السياسات العامة ومراقبة تنفيذها على المستويات الوطنية والمحلية، ومساءلة من بيدهم السلطة عما يقومون به، وامتلاك رؤية إستراتيجية، والتوازن بين أعباء السياسات العامة والفوائد التى يحصل عليها المواطنون من هذه السياسات، وضرورة السعى لتحقيق التوافق حول السياسات العامة. كل هذه الشروط أساسية حتى يمكن وصف نظام الحكم فى أى دولة بأنه حكم رشيد. وكل هذه القواعد تدق نواقيس خطر لدينا لبعدنا عنها، وسوف أركز على بعض هذه القواعد بقصد التوضيح وأترك للقارئة والقارئ أن يحدد مدى انطباق هذه القواعد على أوضاعنا فى مصر. فمثلا من بين هذه القواعد حكم القانون، والمقصود به هو اتباع القواعد الموضوعية التى تصدر للتعامل مع قضايا عامة وليس لتحقيق مصالح محددة لبعض الأفراد أو الجماعات أو مؤسسات الدولة. فليس كل ما يسمى قانونا يندرج فى المعنى المقصود بحكم القانون. ورشادة عملية صنع القرار تقضى بألا يصدر قرار هام دون أن تكون هناك دراسات سابقة لموضوعه تبين المشكلة التى تدعو إلى اتخاذ قرار بشأنها، والبدائل المختلفة للتعامل مع هذه المشكلة، والنفقة الناجمة عن إتباع كل بديل، والفوائد المترتبة عليه، ومناقشة كل هذه البدائل بين المختصين وأصحاب الخبرة ومشاركة الرأى العام فى هذه المناقشات، والأخذ بالقرار الذى يحقق أكبر منفعة وينطوى على أقل نفقة، وإمكانية تعديل هذا القرار عندما تتغير الظروف الأساسية التى أدت إلى اتخاذه أو عند ظهور معلومات جديدة تغير من المعطيات التى انبنى عليها القرار فى السابق. والقاعدة الأخرى المهمة هى ضرورة امتلاك الحكومة على كل مستوياتها رؤية إستراتيجية تبين الغايات الكبرى التى تسعى إليها فى جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الداخلية والخارجية، على ألا تكون هذه الإستراتيجية مجرد وثيقة يجرى الإعلان عنها فى مؤتمر صحفى ثم توضع فى الأدراج بعد ذلك، ولكنها تترجم إلى سياسات وخطط عمل يجرى تنفيذها ومتابعتها وإعلام الرأى العام بما جرى فى شأنها ومساءلة من يقع عليهم واجب تنفيذها، ومكافأتهم إن نجحوا، وعقابهم إن فشلوا لأسباب ضمن حدود إختصاصاتهم.

الشرعية

وأختم هنا بمفهوم الشرعية، وهو من أدق المفاهيم فى العلوم السياسية ومن الأصعب فى قياسها. يفترض أن الأخذ بالأساليب الصحيحة فى التعامل مع الاختلافات وفى اتباع قواعد الحكم الرشيد يقضى إلى توفير الشرعية لنظام الحكم، ولكن فى أوضاع استثنائية قد يتلمس نظام الحكم شرعيته فى الإدعاء بأنه يتوافق مع تقاليد المجتمع مثلما هو الحال فى دول الخليج على ضفتيه، أو استنادا إلى شعبية القائد والمؤسسات السياسية المستندة إلى الإنجاز فى ظروف صعبة وحشد قدرات المواطنين بتذكيرهم بأمجاد ماضية، ولكن مما لا شك فيه أن الأساس الدائم لشرعية أى نظام سياسى هو مدى التزامه بالقواعد الموضوعية فى الدستور والقانون.

***

هل ترون - أعزائى القارئات والقراء - أن فى العلوم السياسية ما يفيد فى فهم أوضاعنا الراهنة؟ أتمنى أن يكون ردكم بالإيجاب حتى أشعر بجدوى ما أقوم به من عمل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved