فؤاد حداد.. المسيحى المسلم العروبى

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 15 مايو 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

كم أبكتنى كلماته وأنا طالب فى الثانوية وكلية الطب وبعدها وهى تهز وجدانى هزا مع انطلاقتها فى جوف الليل بصوت وألحان المبدع سيد مكاوى فتدق على القلوب مع دقات الطبلة بالكلمات المبدعة.
كنت أقول لنفسى كيف أبدع فؤاد حداد هذه الكلمات وكيف صاغ هذه المعانى الإنسانية النبيلة والإسلامية الدقيقة والمسيحية العميقة، كيف كتب بهذا العمق والنبل عن عمر بن الخطاب والقدس والإسراء والمعراج والنبى محمد وهو المسيحى البروتستانى.
وكيف كتب عن مصر وشعبها وعاداتها وانتصر لها وعشقها بصدق وهو من أصل لبانى سورى، وكيف يدافع ويحب الفقراء بتجرد دون الانتهازية التى رأيناها فى غيره من اليساريين، وهو ابن الطبقة العليا فوالده كان أستاذا فى جامعة فؤاد.
إننى يمكن أن أبكى وأنا فى هذا العمر وأنا أستمع إلى كلماته الرائعة ودفاعه عن القدس «مسحراتى يا مؤمنين، منقراتى مد الأنين، الله على رعشة الحنين، عمره ما كان الأمل ضنين، يا قدس نوارة السنين، كأن عينى فى ميتمى، يا قدس ما يحتمل دمى، إلا أشوفك وأرتمى، وأبوس ترابك المريمى، أبوى وابنى على فمى، يا عاصرة مهجة الرجال، سقاكِ من دمعته الهلال، الأعمى فى سجدتك رأى، والفجر من صخرتك سقى، يا قدس تتفجر الجراح، والصبر حرب وأيوب صلاح، يا أخت من مكة والبطاح، قلبى انضرب للعرب وصاح، لابد من فتح فى الصباح».
لقد عاش الرجل حياته دون أن يدرك فتح الصباح ويراه بعينيه ولكنه مات مثل أجيال سبقته دون أن يراه.
لقد كان فؤاد حداد عروبيا تجاوز الأقطار والبلدان إلى بلاد العرب الواسعة التى لا تفرق بين أحد بلون أو دين أو مذهب أو عرق وتحتضنهم جميعا، وكانت مصر فى فترة حاضنة للعرب ولذا جاءها والده اللبنانى وأمه السورية.
تأمل وهو يعرف العربى «لما تقول أجمل ما فى الدنيا المية للعطشان، يعرفوك عربى، لما تقول ابنى اتولد لاجئ، يعرفوك عربى، لما تقول يا رب، يعرفوك عربى، لما تباشر جهادك، ترمى أوتادك، فى قلب دابح ولادك، يعرفوك عربى».
كان حداد أسطورة الشعر العامى والملهم لكل من جاء بعده أمثال جاهين والأبنودى وحجاب.
كان يسخر من الواقع ويعطيك الأمل فى نفس الوقت، لا تيأس مع حداد أبدا، حكيم عميق فى ثوب بديع من البساطة، يجعلك تحب الوطن والدين والناس والفقراء والأيتام دون تكلف.
كان يعيش حقا بين الناس لا يشبهه فى اليساريين سوى المرحوم نبيل الهلالى الذى كان أسطورة فى الزهد والتواضع وينحدر من أسرة رفيعة المستوى فوالده كان رئيس وزراء مصر.
ويعبر حداد عن نفسه قائلا: «المشى طاب لى، والدق على طبلى، ناس كانوا قبلى قالوا فى الأمثال، الرجل تدب مطرح ما تحب، وأنا صنعتى مسحراتى فى البلد جوال، حييت ودبيت كما العاشق ليالى طوال، وكل شبر وحتة من بلدى حتة من كبدى حتة من موال» حفظناها صغارا وتمتعنا بها وما زلنا نتمتع بسماعها حتى اليوم.
كتب حداد فى كل قضايا الوطن، عن الشهداء، عن نضال السويس، عن الظلم الاجتماعى.
وهذه كلماته عن إمام العدل عمر بن الخطاب حاكيا قصته مع الأيتام: «قريت مسائل، جانى الخبر، ومن المدينة، والراشدينا، فيما غبر، أصل الحكاية، سمع شكاية، مد البصر، شاف الخليفة، أجسام ضعيفة، زى الصور، لو لسّه حية، عيونها حافية، من النظر، فى نار تغلب، وإيدين تقلب، ميه بحجر، قالت باسلى ولادى يا اللى، تعرف عمر، ومهما نشهق، لا بد نزهق، من السهر، يمكن يغيتهم، نعاس يميتهم، قبل السحر، سالت دموعه، وبين ضلوعه، قلبه انفطر، قال كل مسلم، جناحه مؤلم، إذا انكسر، شوف جسمه مايل، تحت الحمايل، مد وصبر، قالت شلت ذنبى، يغفر لى ربى، لو يغتفر، قامت قيامة، من اليتامى، لما ظهر، أبو المواجع، كأنه راجع، من السفر، وختمها بقوله «بإيدين حنونة، وقال يا مضر، أنا علىَّ’تخدم أيدى، بدو وحضر، ع الأرض دنه، ينفخ ودقنه، بين الشرر، الإنسانية، كلمة غنية، دم وعبر، أسلافنا هما، شقوا مداها، فطرة وبداهة، وخير أمة، نمشى بهداها، على الأثر» كلمات رائعة من قلب أبيض ونفس صافية تعشق العدل الاجتماعى وأهله.
كان إنسانا بمعنى الكلمة تأمله قائلا «يا ليلة القدر لما تفتحى الطاقة، كل العيون فى مراية مصر تتلاقى».
وهزته هزيمة يونيه فأنشد أقوى قصائده «الأرض بتتكلم عربى» وفيها «إن الفجر لمن صلاه، ما تطولش معاك الآه، الأرض بتتكلم عربى ومن حطين، بترد على قدس فلسطين، أصلك ميه وأصلك طين»، وهو صاحب الصيحة الشهيرة المؤثرة فى الأجيال العربية حتى الآن «الأرض بتتكلم عربى: وهذه الجملة أكثر حضورا من كلمات الساسة وخطبهم بعد هزيمة يونيه 1967.
كان يعشق مصر رغم سجنه ويخاطبها «خللى الندى من أحلامك، يسقى النبات من أيامك، حطى اللى خلفك قدامك، تلقى البلد عامرة، الليلة يا سمرا».. ويقصد بالذى خلفك هم الفقراء والمخلصون والشرفاء.
وأجمل قصيدة وأغنية خالدة عن فلسطين كانت من كلماته «أنا العطشان مليش ميه إلا فلسطين ولا فى قلبى ولا عنيا إلا فلسطين، أنا اللى حلفت بالأزهر وبالأقصى وبأمية، ولا تشيل أرض رجلىّ وتنقل خطوتى الجاية إلا فلسطين».
عشق مصر بكل مشاعره «يا مصر واحه مسعدة، نطقت والفجر كان صدى، حتى الشجر فى الحجر شدا، لما بدأت التاريخ بدا، أنت الأميرة المجاهدة، الإنسانية أم الفدا، أم الحضارة يا والدة، ضميت الأزهر والسيدة، وألف مادنة يدا يدا، سياح لأمة موحده، يا مصر عيشى على المدى، واهدينا ثانية مخلدة، إما الشهادة أو الهدى».
سجن كثيرا ولم يحقد على أحد «الشكر للى سجنونى» مدح الرسول محمد كثيرا «أنا ساكن البرج والتهمة سياسية، مع النبى قلت كل الناس سواسية».
سعد مع سعادة وطنه كما حزن لانكساراته، مدح نصر أكتوبر وكتب عنها 30 قصيدة رغم خلافه مع السادات.
انتهت المساحة المسموحة ولم يجف المداد، أقرر أننى ممن تأثرت كثيرا بمسحراتى فؤاد حداد بل عشقت روحه الإنسانية السابحة فى التسامح والمحبة، رحمه الله رحمة واسعة» فى كل مطرح لما ألاقى حنان، وألاقى قعده تجمع الخلان، وألاقى نسمة من هوى الأوطان، وألاقى القمح جنب منه ريحان وألاقى طيب، أفتكر رمضان».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved