آن الأوان لأن تُؤَرِّخ مصر لنفسها بموضوعية!
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الخميس 15 مايو 2025 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
التاريخ والتأريخ وجهان لعملة واحدة، لا غِنى عنهما لأى أمة لتوثيق الماضى، ولبناء مستقبل آمن، فأمة بلا تاريخ وتأريخ أمة بلا مستقبل مضمون، كما أن أمة بلا تاريخ صادق وموضوعى أمة مآلها الضياع، فالماضى قاعدة لصناعة المستقبل، ومن الخطورة أن تعتمد الأمة على تاريخ مزَوَّر، أو ينقل وجهة نظر واحدة، ولهذا حرصت الأمم الواعية على دراسة تاريخها بموضوعية وأمانة وشفافية.
أعطانا الله المثل الأعلى لذلك، حرص سبحانه على تدوين أهم قصص الأنبياء والأمم، وجعلها «ذكرًا»، حرصًا على أهمية الماضى لبناء مستقبل مشرق للبشرية، لِما فيها من عظات، فهذه أحد الدروس الهامة التى أراد الله أن يُعلِّمها للإنسان، فيقول: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ» (يوسف: 3)، وفى قول آخر: «كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا" (طه: 99)، وتؤكد الآيتان على أن التاريخ ذكر وتذكير من الله يُنبه به غير العالمين بالماضى، وأن إغفاله أو تجاهله وزر وخطيئة يُحاسب الإنسان عليها!
لذا لا يجب أن يُترك تدوين تاريخ الأمم لأفراد أو أحزاب تتحكم فى سرده، فيصبح تاريخًا مزورًا، لأنه سيكون ناقصًا: ينقل وجهة نظر واحدة، تضيع معها الحقيقة، خاصة إذا كان هذا التاريخ يخص مرحلة هامة من تاريخ مصر، ثار حولها جدل كبير، بل نتج عنها انقسام هائل فى المجتمع المصرى، وهذا خطأ كبير من جانب بعض المسئولين، فهم يعتقدون أنهم يؤثِرون السلامة عندما يغضون الطرف عن الأحداث الحساسة الماضية، وأن الكشف عنها يمكن أن يثير فتنًا!
هذه وجهة نظر خاطئة لأنها تتعارض أولًا مع المفاهيم الدينية، وثانيًا مع الواقع والمنطق، فكل الدول المتقدمة تسن قوانين مُنظِمة لرفع السرية عن المعلومات الرسمية، ولتنظيم كيفية تدوين تاريخ أهم أحداث بلادهم للحفاظ على الحقيقة دون أن يتركوا لأحد أيًا كان أن يدعى امتلاك الحقيقة، وأهم عنصر فى هذه القوانين أن الدولة تُفرج عن أسرارها بعد مرور عدد من السنين أقصاها خمسين عامًا، ليستطيع الجيل الذى عايش هذه الأحداث كالحروب والقرارات المصيرية والانتصارات والهزائم أن يدرسها ويُقيِّمها ويستفيد منها، فـ«الشفافية» التى تنقصنا فى كثير من أمورنا تعتبر أهم مبادئ الحفاظ على الحقيقة، وغيابها يعتبر خطيئة فى حق رؤساء ومسئولين سابقين، وفى حق تاريخ ومستقبل البلاد!
• • •
التأريخ ليس تجميعا لقصص وحكايات متفرقة من هنا وهناك، ولكنه تدوين لحقائق تمثل دروسًا هامة، يتعلم منها المسئولون والشعوب فيما بعد حتى لا يكرروا أخطاء ماضيهم، هذه سُنّة كونية، يُعتبر إنكارها جريمة فى حق مستقبل البلاد والشعوب؛ فأمة دون تاريخ صادق يدوِن الحقيقة لا قيمة ولا وزن لها بين الأمم، فكيف تنشُد أمة اسقرارًا لحاضرها وتقدمًا لمستقبلها وتاريخها مبنى على وقائع مغلوطة، فهذا تمامًا مثل طبيب يحاول معالجة مريض يُعطى أعراضًا غير صحيحة لطبيبه، فتكون النتيجة أن يكتب الطبيب علاجًا يتعارض مع حالة المريض الذى تنتهى حياته بكارثة!
هكذا نرى فى تاريخنا الحديث فترات أصبحت «تابوهات»، لم تُدوّن ملامحها بمصداقية وبموضوعية، وذلك بطمس وقائعها أو تزوير حقائقها، لأن البعض اعتبر هذه الفترات غير مشرّفة، وذلك لتضليل الحقيقة لمصلحة فئة مُعينة أو شخص مُحدد، كما حدث منذ فترة الحكم العلوى الذى بدأ 1805 وحتى يومنا هذا، ولعل طمس صورة الملك فاروق فى أفلام الأبيض والأسود التى أنتِجت قبل 1952، تعتبر دليلا قاطعا على وجهة نظرنا، فقد اختصرت فترة حكم محمد على وأبنائه على أنها عائلة فاسدة، وأنهم ألبانيون وليسوا مصريين، وأنكروا عليهم بناء الدولة الحديثة ودواوينها، والنهضة الفكرية والعلمية والصناعية، وحفر قناة السويس، وتوسع نفوذ مصر السياسى والعسكرى فى العالم...!
هذا الأسلوب نفسه حدث بعد وفاة جمال عبد الناصر، فعمل عصر السادات على إخفاء وإنكار كل إنجازات عبد الناصر، كتحقيق العدالة الاجتماعية، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالى، واقتُصِرت فترته على هزيمة 1967، وغياب الحريات، وتهميش المؤسسات الدستورية..، وبالمثل قام الناصريون ــ بعد وفاة السادات ــ باتباع نفس النهج، فادعوا أن انتصار أكتوبر 1973 هزيمة سياسية، واختصروا كل فترة حكمه على أنها تسليم الدولة المصرية المدنية للجماعات الدينية المتطرفة، وأنكروا عليه استرداد كرامة الشعب والجيش المصرى بانتصار 1973، وتحقيق هزيمة منكرة بإسرائيل، وإعادة فتح قناة السويس، وتحرير كل الأراضى المصرية التى احتُلت فى 1967، ولعل أصدق ما قاله حسنى مبارك: لنا ما لنا وعلينا ما علينا!
هذا السجال المتداول بين الطرفين له سبب واحد، هو بلا أدنى شك غياب «الشفافية»، فبعد مرور 55 عامًا على وفاة عبد الناصر، و45 عامًا على اغتيال السادات، مازالت الدولة مصممة على عدم الإفراج عن الوثائق الرسمية لأهم أحداث الفترتين، ونذكر على سبيل المثال: هزيمة 1967، ووقوع الثغرة أثناء حرب 1973، وتُرك للأفراد وللسوشيال ميديا أن يقوموا بهذا الدور الخطير، وتكاد تكون المرجعية الوحيدة لهذين الحدثين، وأحداث أخرى لا تقل عنهما أهمية هى أقوال أبناء الرئيس جمال عبد الناصر، والسيدة جيهان السادات، وشهادات متناثرة لبعض قادة الجيش!
•••
ليس المقصود من دراسة التاريخ الانتقام من الماضى، أو التشهير برموزه ولا تمجيدهم بغير حق، ولكن الهدف هو البحث عن الحقيقة لاستنباط الدروس والعظات!
هكذا نرى أن من يؤرخ لمصر أفراد من عائلتى الزعيمين، ينشرون كلامهما على السوشيال ميديا، فهذا أمر لا يمكن الاعتماد عليه فى توثيق أحداث جسام تمس تاريخ الوطن، وهذا يعطى أيضًا تفسيرًا واضحًا لأسباب صدمة الشعب المصرى عندما نشر أحد أبناء الرئيس عبد الناصر تسجيلًا لوالده يكشف عن آرائه فى السلام، وضرورة وضع نهاية للحروب، لم يتوقعها البعض، نسمع دائمًا مقتطفات للزعيمين بشكل عشوائى، يحاول كل طرف إثبات صحة مواقف من يتبعه من أسرته، وإدانة الطرف الآخر، وذلك كله دون أن نرى الوثائق الرسمية التى توضح لنا الحقيقة، وتحسم أمورًا كثيرة، فلا يمكن لوطن أن تكون مصادر معلوماته من الفيسبوك حيث انتشرت عليها اتهامات كل طرف للآخر، ولا يجب أن يختص نفسه ــ أيا من كان ــ بوثائق رسمية فى بيته وبعيدا عن المؤسسات الرسمية المنوطة بذلك، بل يجب تجريم احتفاظ الأفراد بوثائق رسمية!
•••
هذه التحليلات لا تنفصل عن واقعنا الحالى، فحادثة طفل البحيرة المُعتدى عليه، وعلى الرغم من أنها جريمة فردية تقع فى أى مكان وأى وقت، ولا علاقة لها بدين أو بسياسة، ويجب أن تعالج بطريقة قانونية بحتة لا أكثر ولا أقل، إلا أنها أخذت أبعادًا سياسية كادت أن تصل لفتنة طائفية تشعل نارًا فى الوطن، وهذا ما ينتظره أعداء الوطن، ويرجع السبب الرئيسى لهذه التوترات عدم وجود شفافية فى تطور أحداثها، فالحادثة أخذت عامًا كاملا، وعندما تناقلت السوشيال ميديا إشاعات عنها، ومعلومات لا نعرف مصداقيتها أو مصدرها، أصبحت الحادثة قضية رأى عام، وخطورة قضايا الرأى العام أنها تضغط على كل مؤسسات الدولة!
المؤكد أن الشفافية لم تكن بالقدر الكافى، مما أعطى فرصة لانتشار الشائعات أكثرها كذب، وسمح لأعداء الوطن بنسج وقائع خيالية تثير الفتن، ولو أن الموضوع أُخذ على أنه حادثة فردية، ولم يتم ربطها بديانة المُعتدى والمعتدى عليه لمرت المحاكمة بسلام، وتمت العقوبة بكل هدوء!
لذا نرى أن سلام الأمة فى حاضرها، وبناء نهضة قوية فى مستقبلها يَكمُن فى كلمتى السر: «الشفافية» و«الموضوعية»، ولا يجب الخوف منهما لأننا مجتمع بشرى يخطئ ويصيب، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (الشمس:7-8)، فذِكْر الفجور قبل التقوى له مدولاته، وعليه يمكن أن نقول بكل ثقة أننا فى حاجة ماسة لكشف وثائق الماضى الرسمية لنعيد كتابة التاريخ بموضوعية وأمانة!