الفقراء حسموا الانتخابات الإيرانية

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الإثنين 15 يونيو 2009 - 10:16 م بتوقيت القاهرة

مفاجأة انتخابات الرئاسة الإيرانية مضاعفة. ذلك أنه خلافا لكل التوقعات، فإن أحمدى نجاد لم يفز فحسب، وإنما تم له ذلك فى الجولة الأولى ودون إعادة. وهو أمر يبدو أنه استغربه أيضا!

(1)
كنت قد عزمت على السفر إلى طهران لمتابعة الانتخابات، التى بدا أنها الأكثر سخونة وخشونة فى تاريخ الثورة الإسلامية، حتى وصفها أحد المعلقين بأنها من قبيل صراع الأفيال، الذى لا يستطيع فيه أى «فيل» أن يسقط الآخر بسهولة. وحين شرعت فى ترتيب أمر السفر قال لى أكثر من «خبير» إن المعركة ليست سهلة، وأن أحدا لن يكسبها فى الجولة الأولى، ولن تحسم إلا فى الإعادة، التى ستتم بعد أسبوع لاحق. بسبب التزامات العمل كان من الصعب على أن أغيب مدة أسبوعين فى متابعة الجولة الأولى والإعادة، ووجدت أنه من الأنسب أن أمرر جولة 12 يونيو الأولى، وأن أسافر بعدها إلى طهران، لأشهد معركة الحسم فى الإعادة يوم 19 يونيو.

شجعنى على ذلك أن ما سمعته عن ترجيح الإعادة لم يكن رأيا لواحد أو اثنين، ولكنه تقدير اتفق عليه أربعة من «الخبراء»، ثلاثة منهم إيرانيون والرابع لبنانى «مطلع». واحد فقط غير رأيه قبل 48 ساعة من إجراء الجولة الأولى، هو الزميل محمود شمس الواعظين رئيس التحرير السابق لصحيفة «كيان» التى حسبت على الإصلاحيين وأوقفت. ذلك أنه أخذ بمشهد المظاهرات العارمة التى انطلقت فى طهران ملوحة بالرايات الخضراء «رمز المهندس موسوى»، فاتصل بى هاتفيا من طهران قائلا إن الأمور تتجه إلى التغيير، وأن المعركة ستحسم فى الجولة الأولى لصالح المهندس موسوى!

حينما دققت فى الصورة لاحقا، أدركت أن الذين أكدوا الإعادة ومن رجح حسم المعركة لصالح موسوى من الجولة الأولى تحدثوا عن أجواء طهران وبنوا تقديراتهم على المواكب الحاشدة التى ملأت العاصمة ضجيجا وخطفت الأبصار فى شارع «ولى عصر» أكبر وأطول شوارع المدينة.

وحتى أكون أكثر دقة فلعلى أقول إن تلك كانت أجواء شمال طهران، وهى المنطقة التى تتعدد فيها الأحياء الراقية ويسكنها القادرون، الذين يملكون السيارات التى ظلت تجوب العاصمة طوال الليل. أما جنوب طهران، حيث تنتشر الأحياء الفقيرة وتعيش الطبقات الشعبية، فلم يعرف هذه المواكب، ولم يكن سكانه يسهرون إلى ما بعد منتصف الليل، أولا لأنهم لا يملكون سيارات، وثانيا لأنه عليهم أن يستيقظوا فى الصباح الباكر ليجرى كل منهم وراء رزقه.

فى كل الانتخابات التى شهدتها إيران كانت طهران هى القاطرة التى ما إن تتحرك فى اتجاه حتى تجذب بقية المحافظات وراءها. لكن القاطرة تعطلت هذه المرة إذ سارت الأصوات فيها باتجاه موسوى، بينما اختارت الأغلبية الصامتة فى بقية المحافظات أن تصوت لأحمدى نجاد. وكانت النتيجة أن الأقاليم هزمت العاصمة، كما أن جنوب طهران انتصر على شمالها.

(2)

معلوماتى أن أحمدى نجاد نفسه فوجئ بالنتيجة، وأن بعض استطلاعات الرأى التى خلال الأيام الأخيرة لم تكن مطمئنة له. لذلك فإنه التزم الصمت ولم ينطق بكلمة طوال عملية الفرز، فى حين أن موسوى استبق وعقد مؤتمرا صحفيا أعلن فيه فوزه.

بعض المحيطين به قالوا إنه حين حل يوم الحسم، كان قد بح صوته من كثرة ما تحدث فى الرد على ناقديه وخصومه، خصوصا أنه أدرك أن المرشحين الثلاثة الآخرين، لا يتنافسون فيما بينهم بقدر ما أنهم اجتمعوا عليه. وهو ما بدا واضحا فى خطابهم الإعلامى وفى المناظرات التى تمت بين كل واحد منهم وبينه. وكانت فى حقيقتها محاكمات علانية، ربما أشبعت رغبات المثقفين المعنيين بالشأن السياسى والاقتصادى، لكنها كانت فى صالحه من ناحية أخرى. إذ ثبتت فى أذهان عامة الناس أن أحمدى نجاد واحد منهم وأصدق تعبيرا عنهم.

إذ قدم نفسه بمظهره البسيط وجسده النحيل ووجهه الذى لا تظهر عليه آثار النعمة، حتى بدا صورة طبق الأصل كأى حرفى أو عابر فى الشارع. عزز من تلك الصورة إدراك الناس لحقيقة أنه يعيش حياة بسيطة، لم ينس فيها أنه ابن حداد فى قرية «أرادان» التى تسكنها 40 أسرة فقط، ولا مكان لها لا على الخريطة الجغرافية أو الاجتماعية فى إيران. ثم إنه كأى مواطن ريفى، شديد التدين والتواضع، ولم يعرف عنه تعلقا بالوجاهة أو الثراء. ولأنه «واحد منهم» فقد ظل طوال السنوات الأربع الماضية مشغولا بتحسين أوضاع الفقراء والضعفاء، ومتفننا فى كيفية توفير الخدمات لهم والتخفيف من أوجاعهم، خصوصا من خلال رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة معاشات المتقاعدين. ولأن الأمر كذلك، فلم يكن مستغربا أن يلتف حوله الفقراء، وألا تكف نخب المثقفين وسكان المدن عن توجيه النقد إليه والنفور منه.

المرشحون الذين كانوا يتحدَّونه فى المناظرات كانت صورتهم مختلفة. عند الحد الأدنى فجميعهم كانوا يطلون على الناخبين بوجوه تطفح بآثار الرخاء والنعمة. مير حسين موسوى الأرستقراطى ابن تاجر الشاى المتكئ على رئيسين سابقين هما رفسنجانى وخاتمى، والاثنان من وجهاء السياسة، والأول من أهل الثراء. والشيخ كروبى رئيس مجلس الشورى السابق الذى يرأس مؤسسة الشهيد، الأكثر ثراء فى إيران. والثالث هو رضائى الذى قاد حرس الثورة طوال 16 عاما. ويحتل منصبا رفيعا فى مجمع تشخيص مصلحة النظام.

لأن الفقراء والبسطاء هم الأغلبية فى إيران، ولأن أحمدى نجاد منذ انتخابه قبل أربع سنوات كان يقضى معهم أسبوعا كل شهر «فى محافظة مختلفة» مصطحبا معه أعضاء حكومته لحل مشكلاتهم، فإن أغلبيتهم الساحقة صوتت لصالحه.

أما منافسه مير موسوى فقد صوتت لصالحه أعداد غفيرة من سكان المدن، وكان التصويت لصالحه عاليا بين أهالى محافظة أذربيجان ذوى الأصول التركية، التى تنحدر أسرته منها. وانحياز نسبة غير قليلة من سكان المدن لموسوى، هو الذى يفسر حالة الغضب التى اعترت البعض فى طهران مثلا، ودفعتهم إلى الخروج غاضبين إلى الشوارع. الأمر الذى أوقع التداعيات المؤسفة التى ترتبت على ذلك، وأدت إلى إحراق بعض السيارات والاشتباك مع الشرطة.

(3)

كان المهندس حسين موسوى رئيس الوزراء الأسبق قد غاب عن المسرح السياسى طوال العقدين الأخيرين، وحين ترك الحكومة فى عام 1989، كان الرجل معروفا بميوله الاشتراكية ومحسوبا على المحافظين. لكنه عاد هذه المرة محمولا على أكتاف الإصلاحيين، ومؤيدا بقوة من الشيخ هاشمى رفسنجانى رئيس مجمع تشخيص المصلحة والرئيس السابق السيد محمد خاتمى، والأخير ظل يصحبه فى جولاته ويخطب داعيا له فى المؤتمرات الشعبية التى نظمها أنصاره، لأن موسوى ليس خطيبا جيدا.

وخلال المناقشات التى دارت فى تلك الجولات رأى المحللون وجها مغايرا له، مختلفا عما ألفوه فيه. إذ قدم نفسه باعتباره رجلا «معتدلا»، حتى بالمفهوم الشائع فى العالم العربى، فإلى جانب حديثه عن الحريات العامة ودفاعه عن حقوق المرأة والشباب والتعددية الحزبية، فإنه دعا إلى أمرين أثارا الانتباه واللغط، الأول الانفتاح على الغرب والتعامل بمرونة مع الولايات المتحدة الأمريكية الأمريكية، بدعوى إخراج إيران من العزلة السياسية التى أوقعتها فيها سياسة أحمدى نجاد، بلغته المتشددة والمثيرة للجدل إزاءه. ورغم أنه تمسك بحق إيران فى استكمال برنامجها النووى «وهو الموضوع الذى لم يختلف عليه أحد من المرشحين»، إلا أن الاختلاف بينهم كان فى حدود التشدد والمرونة التى ينبغى أن يلتزم بها المفاوض الإيرانى. واعتبر موسوى أن «تطرف» أحمدى نجاد كان مصدرا لإثارة مخاوف الغرب من البرنامج النووى الإيرانى، وتعهد من جانبه بأن يسعى لـ«طمأنة» الدول الغربية وكسب ثقتها من خلال خطاب ورؤية جديدين.

الأمر الثانى الذى لفت الانتباه فى مواقف موسوى أنه رفع فى مؤتمر عقده بجامعة طهران شعار «إيران أولا»، وأبدى فى لقاء آخر تحفظا على الدعم الإيرانى لحزب الله وحركة حماس، وقال فى هذا الصدد إن حكومتنا تتحدث عن عزة الشعب اللبنانى وعزة الشعب الفلسطينى، فى حين أنها تتجاهل عزة الشعب الإيرانى «ملمحا إلى الغلاء والبطالة». ونقل عن بعض أنصاره قولهم إن موسوى «سيوقف نهب مال الإيرانيين وإعطاءه للآخرين فى الخارج. فالمصباح الذى يحتاجه البيت حرام على الجامع».
وهو ما رد عليه أنصار أحمدى نجاد قائلين: كيف يمكن لموسوى أن يعتبر نفسه ملتزما بخط الثورة ومواقف الإمام «الخمينى» وهو يروج لهذه الأفكار، فى حين أن الإمام وهو يدافع عن كرامة ورفاهية الشعب فى إيران، لم يغفل عن الأخطار التى يمثلها الأمريكيون والإسرائيليون، ولم يتردد فى مقاومة مخططاتهم ومساندة قوى التحرر من شرورهم.

هذه الخلفية جعلت معارضى موسوى يتندرون على اللون الأخضر الذى اختاره شعارا يميزه، ويقولون إنه ليس علامة على النماء والحفاظ على البيئة كما يقول، ولكنه بمثابة إشارة خضراء تدعو الأمريكيين وأنصارهم إلى اختراق النظام الإيرانى: «للعلم: أحمدى نجاد اختار اللون الأحمر. وهو رمز فريق «بيروزى» لكرة القدم، الأشهر فى إيران. والكلمة معناها الانتصار».

(4)

إسرائيل لم تكن سعيدة بفوز أحمدى نجاد، أما واشنطن فكانت أكثر حذرا. والموقف الأول مفهوم، أما الثانى فيثير الانتباه. إن شئت فقل إن الأول تقليدى، والثانى ينسجم مع الخطاب التصالحى للرئيس أوباما، الذى دعا فيه إلى إجراء حوار مع إيران دون شروط مسبقة، وعلى أساس من الاحترام المتبادل.

وهى الأجواء التى دفعت الأمريكيين إلى دعوة الدبلوماسيين الإيرانيين لحضور احتفالات اليوم الوطنى،وإلى المشاركة فى المحادثات متعددة الأطراف المتعلقة بالشئون النووية. والثابت أن حوار الطرفين بدأ بالفعل، وهناك اجتماعات متواصلة تعقد بينهما فى جنيف. وتدل مؤشرات عدة على أن الإدارة الأمريكية الجديدة قررت أن تتعامل مع إيران كطرف ولاعب مهم فى الشرق الأوسط. وتعاونها معه مهم ومفيد فى التعامل مع عدة ملفات فى العراق ولبنان وفلسطين.

وهناك اعتبار آخر مهم برز فى الآونة الأخيرة، يتعلق بالوجود الأمريكى فى أفغانستان، لأن القوات الموجودة هناك، ستواجه مأزقا شديدا خلال الأشهر القليلة القادمة. ذلك أن تلك القوات «60 ألف جندى» بدأت تواجه من الآن مشكلة فى وصول الإمدادات إليها، التى اعتمدت فيها على باكستان خلال السنوات التى خلت. لكن هذه الإمدادات أصبحت فى خطر الآن بسبب عدم الاستقرار الذى يسود الحدود بين البلدين، وفى بحث الأمريكيين عن بديل لإمداد قواتهم لم يجدوا أمامهم سوى مدخلين، أحدهما عن طريق جمهوريات آسيا الوسطى، والثانى عن طريق إيران. ومشكلة الطرق فى الأولى أنها تظل مغلقة بسبب الثلوج طوال ستة أشهر فى السنة، الأمر الذى يؤدى إلى تعطيل المرور وتوقف الإمدادات خلال تلك الفترة. وبعد استبعاد جمهوريات آسيا الوسطى تصبح إيران هى الخيار الوحيد المتاح أمام الأمريكيين. ولأن حدودها مع أفغانستان بطول 860 كيلو مترا، فإنها تعد معبرا نموذجيا يضمن توفير احتياجات القوات الأمريكية على مدى العام. ولأن الأمر كذلك فإن الأمريكيين حريصون على إنجاح الحوار مع إيران والاتفاق على المقابل الذى ستتلقاه فى هذه الصفقة إذا عقدت.

من هذه الزاوية فإن تجديد انتخابات أحمدى نجاد للرئاسة لا يبدو أن له تأثيره على السياسة الخارجية، التى يتولى المرشد «السيد على خامنئى» مفاتيحها الأساسية. ولنا أن نحمد الله على أن تلك السياسة نجت من رياح «الاعتدال» الذى بشر به السيد مير موسوى.

سألت خبيرا إيرانيا عن الخاسر الأكبر فى الانتخابات، فقال إنه هاشمى رفسنجانى وليس موسوى، لأن الرجل الذى يعد أحد أعمدة النظام يشغل اثنين من أهم مناصب الدولة «رئيس مجلس الخبراء، ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام» اتهمه أحمدى نجاد أثناء إحدى المناظرات العلنية بالفساد المالى هو وابنه، فجرح صورته وأهدر سمعته، ولم يبال باحتجاجه لدى المرشد، الأمر الذى يعد اغتيالا أدبيا وسياسيا له، يطعن فى شرعيته وقد يسدل الستار على دوره السياسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved