روح الثورة والعدالة الراسخة

أيمن النحراوى
أيمن النحراوى

آخر تحديث: السبت 16 يونيو 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لا يمكن أن نقبل بما يدعيه البعض من أن الثورة المصرية لم تحقق الكثير، إذ إن محاكمة الرئيس السابق ونجليه والعديد من المسئولين فى عهده، تمثل حدثا تاريخيا غير مسبوق فى تاريخنا الممتد إلى سبعة آلاف سنة، حدثا تمثل فى ثورة باسلة جسورة على الحاكم ونظامه الفاسد والإطاحة به ثم وضعه خلف القضبان ومحاكمته أمام الشعب، ثورة كانت عظيمة حتى فى محاكمتها للنظام ورئيسه، فبرغم المعاناة الشديدة التى تكبدها الشعب فى عهده إلا أن هذا الشعب أثبت معدنه الأصيل وحضارته ورقيه حتى مع هؤلاء الجناة الذين أذاقوه الأمرين وحملوا حياته بمالا يطاق، فلم يهانوا ولم يعتد عليهم ولم يقتلوا شر قتلة ولم يمثل بهم، وإنما أسلمهم الشعب لمحاكمة عادلة تقضى فيهم بالحق والعدل جزاء ما اقترفت أيديهم.

 

لقد عاش ملايين المصريين والآلاف من أسر الشهداء الأيام الطويلة للمحاكمة وإجراءاتها وانتظروا ذلك اليوم حتى تأتى لحظة النطق بالحكم، انتظروها ووقائع ثلاثين عاما كاملة من التردى والتدهور والتراجع والمعاناة فى حياتهم تمر كشريط أسود فى أذهانهم، انتظروها وقد دفعت مصرهم الغالية ثمنا باهظا من مواردها وقدراتها ومكانتها ومركزها وحاضرها ومستقبلها نتيجة لسياسات وقرارات هذا النظام الفاسد، انتظروها وقد شاهدوا زهرة شباب مصر يقدمون أنفسهم فداء مصر؛ فيهم الشهيد الذى قدم روحه الطاهرة وفيهم البطل الذى فقد نور عينيه وفيهم البطل الذى بتر طرفه وتشوه وجهه، وغيرهم من الأبطال الذين كانوا على استعداد لعمل أى شىء من أجل هذا الوطن الغالى.

 

إن روح الثورة الكامنة فى نفوس هذه الملايين لها الحق كل الحق فى أن تطلب تطبيق أقصى العقوبة على هؤلاء، لكنها لم تأخذ فى اعتبارها حقيقة ساطعة يعلمها رجال القانون وجهابذته فى مصر عن ظهر قلب وهى أن القضاء المصرى الشامخ العظيم إنما يصدر أحكامه استنادا إلى نصوص القانون ومواده، وأن أحكامه لا تقوم على الشبهة أو الشك بل تقوم على الجزم واليقين، وعليه فإن الإدانة من عدمها تعتمد اعتمادا كليا على ما تضمه الأوراق من مستندات ووثائق محققة وعلى ما تتضمنه أقوال الشهود، وعلى ما هو مقدم اليها من أدلة دامغة على اقتراف الجريمة، وهو ما تحقق يقينا لهيئة المحكمة الموقرة فى حق الرئيس السابق ووزير داخليته وعليه فقد حكمت بالأدانة عليهما، ولم يتحقق هذا فى حق الآخرين.

 

إن ما يبعث على الأسف العميق أنه فى أعقاب جلسة النطق بالحكم، تدفق إلى أسماع الناس طوفان من التعليقات والتحليلات والتأويلات كل وفق رؤيته ومنطلقه وهدفه، من هؤلاء من يدعون أنهم فقهاء فى القانون برغم أن معرفتهم به لا تتعدى حدود قراءاتهم فى الصحف عن أخبار القضايا والحوادث، ومنهم من استغل موضوع الحكم لخدمة مصالحه السياسية والحزبية والانتخابية بمنظور انتهازى، ومنهم من وجدها فرصة سائغة ومادة اعلامية مثيرة لعمل برامج للنقاش والحديث المتصل المسترسل، دون أن يلتفتوا إلى ما لكل ذلك من أثار قد تتسبب ولعلها تسببت بالفعل فى تأجيج المشاعر واحداث المزيد من الاحتقان فى مجتمع أنهكته الأحداث والوقائع، مجتمع أحوج إلى التعقل والتهدئة عوضا عن الإثارة والاستفزاز.

 

●●●

 

أخذ الكثيرون فى تأجيج النيران بدلا من إخمادها، ادعى هؤلاء عن غير علم أن براءة نجلى الرئيس السابق فى هذه القضية هو نهاية المطاف وأن الحكم الصادر ما هو إلا تمهيد لخروجهم من محبسهم، وتناسوا أنه قبل أربعة ايام من يوم النطق بالحكم، قرر النائب العام توجيه الاتهام إليهما بتهمة التلاعب فى عمليات البورصة، وأنهما أيضا قد أحيلا إلى محكمة الجنايات على ذمة قضايا أخرى بتهمة استغلال النفوذ والتربح طريقة غير مشروعة، التى تؤكدها معلومات الأجهزة الرقابية عن امتلاكهم أرصدة هائلة فى بنوك أوروبا وأمريكا والكاريبى والشرق الأقصى، وملكيتهم لشركات دولية مسجلة تحت مسميات وفى دول مختلفة، وكذلك الأسهم والمستندات والممتلكات العقارية، وهو الأمر الذى يتطلب أيضا محاكمة المجموعة الفاسدة التى أحاطت بهم من الحاشية ورجال الأعمال، واندفاعهم المتوحش لنهب وامتلاك الثروات، والتى جعلت الاقتصاد المصرى ومن وراءه عموم الشعب المصرى هزيلا واهنا بعد ثلاثين سنة كاملة.

 

ولا شك أن حصاد ثلاثين عاما فى ظل هذا النظام قد كشف عن وقائع فساد رهيبة لم ينج منها أى قطاع من قطاعات الدولة، بدءا من عمولات السمسرة وصفقات السلاح وجريمة تصدير الغاز إلى إسرائيل مرورا بالمتاجرة بديون مصر والتربح منها وحتى نهب أراضى الدولة وبيع قلاعها الصناعية ومنشأتها الاقتصادية بأبخس الاثمان والتلاعب بالموارد الاقتصادية واهدارها بصورة لم يسبق لها مثيل بعلم أو تواطؤ ومسئولية الرئيس السابق برغم أنه أقسم اليمين الدستورية وأقسم بالله العظيم أن يحترم الدستور والقانون وأن يرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن يحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه، وهو بالفعل قد فعل عكس كل ما سبق وحنث بيمينه أمام الله والوطن وارتكب وأركان نظامه الفاسد من الجرائم طوال 30 سنة ما يرقى إلى الخيانة العظمى.

 

وهو فى تقديرى ما يتجاوز نطاق محاكمتهم جنائيا ويتطلب محاكمتهم بتهمة الخيانة العظمى وتفعيل القانون 247 لسنة 1956 الخاص بمحاكمة رئيس الجمهورية والوزراء الذى يقضى بمعاقبة رئيس الجمهورية بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة إذا ارتكب عملا من أعمال الخيانة العظمى أو عدم الولاء للنظام الجمهورى وذلك بفعلين الأول هو العمل على تغيير النظام الجمهورى إلى ملكى وهو ما قام به بالفعل فى عملية التوريث، والثانى هو وقف كل أو بعض دستور الدولة، أو تعديل أحكامه دون اتباع الإجراءات، وهو أيضا ما فعله الرئيس السابق الذى عطل معظم أحكام الأبواب الثلاثة الأولى من دستور، أو أوقفها، أو لم يأخذ بها، وخالف الكثير من مواده وأهدرها.

 

أما بشأن أركان نظامه فيتطلب الأمر محاكمتهم من خلال تفعيل القانون 79 لسنة 1958 الخاص بمحاكمة الوزراء، بجريمة الخيانة العظمى ومخالفة الأحكام الأساسية فى الدستور، وكذلك جرائم التأثير فى أثمان البضائع أو العقارات أو الأوراق المالية واستغلال النفوذ للحصول على فائدة أو ميزة للنفس أو للغير من أى سلطة عامة، أو أى هيئة، أو شركة، أو مؤسسة، ولا نبالغ إذ نقول إن معظم رؤساء الوزارات والوزراء وكبار المسئولين فى عهده البائد قد أتوا بما أوردته نصوص ذلك القانون بجرائمهم وأفعالهم.

 

●●●

 

إن الاقتصار على المحاكمة الجنائية فى ظل ما ارتكب من جرائم فى حق الوطن سيتسبب فى الحكم على مرتكبى هذه الجرائم ووقائعها فى حدود ما تقضى به القوانين الجنائية وأحكامها ومتطلبات الإدانة بموجبها، وهو ما يمكن أن ينجم عنه المزيد من المشكلات والقلاقل على غرار تلك التى حدثت فى أعقاب النطق بالحكم على الرئيس السابق منذ عدة أيام، ولاسيما أن العديد من أركان نظامه البائد مازالوا تحت المحاكمة بموجب هذه القوانين الجنائية، ومن ثم فمحاكمتهم على جرائمهم من خلال تفعيل القانونين المشار اليهما ستضمن أولا وقبل كل شىء إحقاق الحق وترسيخ العدل الذى تنشده روح الثورة المصرية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved