شبح المدينة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 15 يونيو 2014 - 7:00 ص بتوقيت القاهرة

«إن المدن تشيد على أعمدة روحية، وهى تعكس قلوب سكانها شأن المرايا العملاقة، فإذا اسودت تلك القلوب وفقدت إيمانها، فإن المدن ستفقد بهاءها بدورها. هذا ما يحدث، يحدث دائما»، هذه المقولة جاءت على لسان الشاعر المتصوف ـ شمس التبريزى ـ فى رواية الأديبة التركية أليف شافاك «أربعون قاعدة للحب». الأب الروحى لمولانا جلال الدين الرومى كان يتحدث عن المدن بوصفها مثل بنى البشر الذين يولدون ويمرون بمرحلة الطفولة والمراهقة، ثم يتقدمون فى العمر ويموتون... دورة حياة كاملة يتدخل فيها التاريخ والجغرافيا والظروف السياسية والخطط العسكرية.. مدن تختفى وأخرى تدمر، تغمرها المياه أو تمسحها الحروب من على الخريطة، هكذا هى فى حالة تشكل وانفراط دائمين.. وبالتالى لا أحد يعلم ما سيكون عليه مصير هذه المدينة أو تلك بعد ألف عام، هل سيهرب منها الشباب ويسكنها العواجيز لأن سبل العيش ضاقت بها، فلا تلمح فى نوافذها سوى ظلال وأشباح رمادية الشعر؟ أم تنضم لأخرى وتلحق بها فتتبدل حدودها ومعالمها؟ هل ترعى الكلاب فى شوارعها وتنهش لحم نسائها، أم يخترق رصاص الغدر جدران مبانيها ويتركها كالمنخل الملىء بالثقوب الضيقة التى لا تسمح سوى بمرور الذكريات؟ قد تنجو مدينة من بعض ويلات زمانها، تتسع وتتطور، ثم يأتى وقت الأفول..

•••

يحاول بعض الباحثين دراسة القواعد التى تحكم دورة حياة المدن، يزعمون أنه كلما تنامى حجمها زادات نسبة الجريمة والعنف فيها، وكذلك نسبة الإصابة بالأمراض، بغض النظر عن موقعها وتاريخها.. بل ذهب بعضهم إلى القول بأن تضاعف مساحة المدينة يصاحبه زيادة فى الدخل بنسبة 15%، وزيادة فى معدلات التعرض للعنف بنسبة 15% أيضا.. ثم يشكك آخرون فى صحة هذه الأرقام ويدحضونها، مبرهنين على كلامهم بنماذج من التاريخ منذ ظهور ونشأة المدينة فى الألف السادس والألف الخامس قبل الميلاد.. ففى وقت الهزائم وفى المنافى، يطيب الحديث عن التاريخ أو وهم التاريخ، كما يقول الكاتب السعودى عبدالرحمن منيف فى خماسيته «مدن الملح».. وهو يبدأ الجزء الثالث بوصف العقود الأولى من القرن العشرين المليئة بالتوقع والاحتمالات: «فى ذلك الزمن كل شيء مطروح لإعادة النظر، لإعادة القسمة: الأفكار، المناطق، الدول، حتى الملوك والسلاطين والأمراء الصغار. دول تنهض فجأة، وأخرى تغيب. القارات تقسم حسب خطوط الطول، وخطوط العرض. المناطق والشعوب تجزئ أو تلحق، تبعا لرغبات الأقوياء، الذين يتخذون القرارات، وتبعا لمصالحهم وقدرتهم على المساومة ونقض الوعود والعهود. الملوك والسلاطين، ومعهم الجواكر، يخترعون فى التو واللحظة ليتولوا الأمور، أو يحكم عليهم بالنفى إلى الجزر البعيدة لكى يموتوا هناك منسيين، وبصمت».

•••

هكذا تكون مطالع القرن وعقوده الأولى، على ما يبدو، فما أشبه الليلة بالبارحة.. ترنو إلى مدن عريقة كنت ترغب فى زيارتها فتجدها خراب.. حضاراتها هدمها الغزاة أو المتأسلمون وغلاة الدين.. طوائفها هجروها خوفا من الغد الذى سيأتى.. بل ربما يفضل ألا يأتى.. نساء تنتهك أعراضهن فى الشوارع والميادين. حتى عندما يحاول البعض الهروب من هذه الويلات فيغنون ويرقصون، يظهر وجه المدينة القبيح. جنون يأتى فجأة، وينتهى فجأة.. وأناس اسودت قلوبهم، فاسودت عيشتهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved