«باولو».. ثورة أتلفها الهوى!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 15 يونيو 2017 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

أصعب شىء أن تكتب رواية سياسية، والأصعب أن تكون عن حدثٍ معاصر، ما زالت تداعياته تتفاعل، ولكن موهبة يوسف رخا مؤلف رواية «باولو» الصادرة عن دار التنوير، والتى وصلت إلى قائمة البوكر العربية الطويلة 2017، نجحت فى عبور هذا الاختبار الصعب بامتياز؛ لأن الكاتب أخلص أولا لرسم معالم بطله الفريد، العميل الأمنى المثقف عامر أبوالليل بغاغو، الذى يحمل أيضا اسم «باولو»، وأخلص لبناء روايته لتأخذ شكل تدوينة على الإنترنت، ومن خلال هذا الفن خرجت الأفكار السياسية قوية ومؤثرة، بعكس بعض الأعمال التى تصرخ سياسيا، فتخذلها موهبة وحرفة أصحابها، لتصبح تعليقا على الأحداث، يشبه تحليلات ما بعد نشرات الأخبار.
نقطة تفوق «باولو» فى هذا النضج الفنى بالأساس، وهى تمثل كرواية الجزء الثانى من رواية «التماسيح»، التى قام فيها رخا بتشريح عينة من النخبة المثقفة لجيل التسعينيات: عدة شعراء قرروا فى العام 1997 تكوين جماعة «للشعر السرى»، أطلقوا عليها جماعة «التماسيح».
فى «باولو» تحضر بعض شخصيات رواية «التماسيح» مثل الفتيس ومون، ويتذكر السارد موت صديقه نايف، أحد مؤسسى الجماعة، بل إن بطل الجزء الثانى هو باولو، عضو التماسيح، الشاعر المصور، يتتبعه رخا بعد سنوات من تراجع حلم الشعر، وصولا إلى ثورة يناير، وما بعدها من أحداث عاصفة.
هذه إذن بالأساس قصة أحد أعضاء الجماعة المثقفة البائدة، وهى بالضرورة، قصة تناقضات جيل بأكمله، ربما كانت أحلامه أعلى بكثير من قدرته على التغيير، ومن هنا ينطلق السرد بذكاء من الخاص جدا (حكاية باولو)، ليعيدنا فى سطور إلى دائرة أوسع (جيل التسعينيات والتماسيح)، ثم ننطلق إلى الدائرة الأكثر اتساعا (ثورة يناير وتداعياتها)، ولكم تمنيت أن يُكتب بوضوح أن الرواية هى الجزء الثانى من «التماسيح»، لأن رخا اكتفى بعبارات سريعة عن نايف والفتيس، قد لا يفهم القارئ أصلها.
تلك هى اللعبة السردية المدهشة التى حفظت للرواية تماسكها، والتى أبعدتها عن جفاف السياسة، رغم أنها بالتأكيد رواية سياسية تكشف مأزق الثورة المصرية، وربما ثورات الربيع العربى أيضا، بنفس الجرأة والنضج التى تشرح فيه نموذجا إنسانيا فريدا مركبا من الناحية الاجتماعية والنفسية والفكرية، وبنفس الدرجة التى ترسم فيه ملامح النخبة المثقفة والمسيسة، سواء قبل الثورة أو بعدها.
باولو الذى تحمل الرواية اسمه، يحمل تناقضاته إلى مرحلة ما بعد جماعة التماسيح، عمل لفترة فى وزارة التربية والتعليم، ثم وجد عملا فى مكتبة أزمنة، ولكن باولو اختار بإرادته أن يكون مخبرا أمنيا، مرة قبل يناير 2011، ومرة بعد الثورة. فى المرة الأولى كان اختياره بمثابة إعلان حرب على الأيديولوجيا والمؤدلجين، وفى المرة الثانية، كان الأمر إعلانا للحرب على ثورة يناير، تحمس باولو لها فى البداية، ثم اكتشف أنها ستمنح السلطة للمتأسلمين، وستؤدى إلى تحويل مصر إلى إيران سنية.
هذا نموذج مختلف حقا، باولو من حيث الوظيفة عميل أمنى، ولكنه أيضا صاحب موقف سياسى، يجسد فكرتين: الكفر بالأيديولوجيا عموما ولخلطة الدين والسياسة معا، ووجود فراغ كامل بعد سقوط مبارك لم تشغله القوى المدنية الضعيفة، والتى تبدو أيضا أقرب ما تكون إلى «جماعة تماسيح»، مغلقة ومنعزلة ومليئة بالتناقضات.
ترك باولو الشعر، وقرر أن يكون سياسيا أمنجيا، نزل الساحة بكل عقده ومشكلاته، ما زال «دون جوان» يحب النساء، تحولت صوره إلى علاقات حميمة تنتهى دوما بكارثة، سبعة من النساء على علاقة به قتلن بطريقة بشعة، ثم تأخذ شخصية باولو بعدا آخر، عندما يعتبر نفسه فى مهمة مقدسة لإفشال الثورة وهزيمتها، تظهر له شخصية المتر، ابن قبيلة الماساى على حدود كينيا وتنزانيا، صائد الأسود، الذى يبشر باولو بأنه سيكون صائدا لأعدائه، يستدعى باولو الغابة وعالمها البدائى إلى ميدان التحرير، ثم يرى نفسه مثل النبى إرميا، وعندما يختطف أحد النشطاء، يتصور باولو نفسه إلها، لا أقل من ذلك.
ارتفاع المهمة إلى مرتبة أسطورية ومقدسة معا، منح النص حيوية فائقة، فالسارد هو باولو، وبينما يدافع عن نفسه مؤكدا أنه لم يقتل مون، الموديل الأخير، يخاطب طوال الوقت ضابطا هو الباشا المسيطر، فيتحرر فى الحديث، يشتم ويسب ويهرطق، ثم يتذكر مهمته المقدسة، ارتباطا بقرينه المتر الذى لا يشيب ولا يكبر، وارتباطا بالنبى إرميا، فيستعير أسلوب التوراة، ومن هذه الخلطة المعقدة فى السرد، والتى تجمع بين حرية مدونات الألفية الثالثة، والأحلام والأفلام، واستدعاء العالم البدائى الإفريقى، نستطيع أن نرى تناقضات باولو الفريدة.
باولو على وعى بوجود طاقة للشر فى داخله، يقوم المتر بتحريرها، وبتوجيهها، مشفوعة بالحجة السياسية، وبالحرص الأمنى، وبالمهمة المقدسة، باولو لديه أيضا رغبة دفينة فى إيلام نفسه والآخرين، يتضح ذلك من علاقته بالقط، وبمون التى سيكتشف معها لذة الألم، وبينما يدافع باولو عن نفسه لأنه لم يقتل مون، فإنه يعترف بجرائم أخرى، ويفتخر بسجل أعماله، هو وزملاء خليته، فى إفساد الثورة.
ثم تقطع الرواية شوطا آخر فى توسيع مجالها عندما نتعرف من خلال باولو على فئات من المثقفين المسيسين، بقايا اليسار المنكسر، سخرية باولو منهم لاذعة، ورأيه فيهم يتوزع بين الحياة خارج التاريخ، والارتزاق من الثورة، والطيبة التى تؤدى بصاحبها إلى الهلاك. كما أنه ينتقد رؤيتهم باستخدام مصطلحات التصوير: إنهم، فى رأيه، يركزون على دائرة واحدة صغيرة نت/ واضحة فى صورة بقيتها فلو/ غائمة، وهو تحليل مذهل فى بلاغته.
«باولو» يستشعر فشله وفشل جيله، ويقول لمون فى جلسة اعتراف إن الثورة كذبة، والتماسيح كذبة، ولو كان عندنا دم، لانتحرنا مثل رضوى عادل، الاسم الروائى لمناضلة السبعينيات أروى صالح، والتى كان تأسيس جماعة التماسيح موافقا بالصدفة لانتحارها عام 1997، ولعل المعنى هو أن الفشل حتمى؛ لأن التناقضات قائمة ولم تختفِ، وإنما يسلمها جيل إلى آخر، وتكون المحصلة أن تفشل ثوراتنا التى أتلفها الهوى.
لا تقول رواية «باولو» إن الدولة الأمنية ورجلها «باولو» هما السبب الوحيد لفشل ثورة يناير، فكل ما فعله باولو ورجاله، هو استغلال تناقضات قائمة فعلا بين الذين قاموا بالثورة، بل يراودنا شعور واضح بأن باولو إنما أراد أن يملأ الفراغ الفاضح الذى كشفت عنه الثورة، بالذات بين المثقفين والسياسيين أصحاب الشعارات، لم يفعل باولو سوى استغلال عدم وجود قيادة أصلا للثورة، فأصبح زعيما سريا بعد أن كان شاعرا سريا، ثم ارتقى ليصبح مقاتلا يصطاد الأسود، وانتهى نبيا مقدسا، بينما هو فى الحقيقة تجسيد للفشل واليأس.
شاعر ومصور يصبح مخبرا وقاتلا، وثورة تنتهى إلى فوضى، وشاعر ثورجى يكتب: «الحلوة حامل م التاريخ ولدت ثورة»، والمدونة تظهر يوم فض اعتصام رابعة فى 14/8/ 2013، مأساة تفرز مأساة، والأسد يعاود ظهوره فى صورة شرسة، يا لها من رؤية كابوسية مؤلمة حقا، هى الحصاد المر لتناقضات، ما زال هناك من ينكرها:
تناقضات التماسيح، وتناقضات القائمين بالثورة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved