ولماذا لم يصنع نظام يوليو نخبة سياسية؟

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 15 يونيو 2017 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

استكمالا للإجابة على التساؤل لماذا يتجدد نظام يوليو 1952 دون ارتقاء، والذى وصفناه فى مقال الأسبوع الماضى بأنه سؤال هزيمة 1967 الأكبر، نضيف اليوم أن هذا النظام لديه أيضا عجز طبيعى عن تكوين نخبته القائدة الخاصة، أى أن نظام يوليو 1952 لم يكتف فقط بإصابة المجتمع بالعقم، أى إفقاده القوة على التنظيم والمبادرة فى شتى مناحى الحياة، ولكنه عمد كذلك إلى تدمير قدراته الذاتية هو نفسه على مراكمة تقاليد ومؤسسات، وقيادات وكوادر تقود التطور والارتقاء من داخله.
بعبارة أخرى كانت مصر تبدأ من جديد مع كل رئيس يتولى السلطة، إذ باستثناء عنصر الاستمرار الوحيد الذى أشرنا إليه فى المقال السابق، والمتمثل فى تعقيم المجتمع، وفردية القرار، وتعبئة الدولة كلها حول شخص الرئيس بقيادة المؤسسة الأمنية، فإن كل عهد من عهود يوليو الثلاثة السابقة، وكذلك عهدها الرابع الحالى، كان يغلب عليه القطيعة مع سابقه، بل والانقلاب عليه وتشويهه، فى بعض أو غالبية التوجهات الداخلية والإقليمية والخارجية، ومن ثم يطيح ليس فقط بحاشيات ورجال العهد السابق، بل يقود أيضا حملة إدانة شاملة للعهد، بحيث يجتث كل أثر له ولرجاله فى الحياة العامة.
الرئيس عبدالفتاح السيسى قدم بنفسه أحدث دليل على ذلك عندما، وصف الدولة المصرية التى اختارته رئيسا لها بأنها أشلاء دولة، وفى مناسبة أخرى قال: إنها شبه دولة، وفى مناسبة ثالثة قال: إننا فى وطن ضائع، ثم أطاح بالتحالف الثلاثى الحاكم، الذى كان مؤلفا من المؤسسة الأمنية، والحزب الوطنى، ورجال الأعمال، وهو الآن يجرب إقامة نموذج أقرب ما يكون إلى دولة محمد على باشا الكبير، حيث المؤسسة العسكرية هى القطاع القائد للدولة والمجتمع فى السياسة والاقتصاد والمرافق الخدمية، تحت إمرة الرئيس المباشر.
كما لم يخلف الرئيس الرابع من رؤساء يوليو تقليد أسلافه بالتخلص بسرعة من كل شركائه (السياسين)، وهم هنا قيادات «جبهة الإنقاذ» من حكم الإخوان المسلمين، والوقائع حديثة العهد بما ينفى الحاجة لتكرارها.
أما الرئيس حسنى مبارك، فكان قد أجرى عدة انقلابات فى نخبة الحكم، ففى البداية تخلص من رجال السادات الأقوياء، تباعا، حتى لم يبق منهم أحد تقريبا مع إقالة حكومة كمال حسن على عام 1985، والقائمة تضم أمثال سيد مرعى، وعثمان أحمد عثمان، وصوفى أبو طالب، والنبوى إسماعيل، ومنصور حسن، إلخ، ثم جاء الدور على رجال مبارك أنفسهم ليطاح بهم لحساب رجال ابن الرئيس ومشروعه لوراثة الحكم.
وكان السادات نفسه قد قاد انقلابات أكثر حدة على رجال جمال عبدالناصر، ثم على كل سياساته، ابتداء من انتصاره فى صراع مايو 1971 ضد مراكز القوة، ثم استغلال نصر أكتوبر فى التخلص من مشاركة اليسار بشقيه القومى، والماركسى من المشاركة فى الحكم، وتضم القائمة هنا أمثال نائبيه حسين الشافعى ومحمود فوزى وعزيز صدقى ومحمد حسنين هيكل، وإسماعيل صبرى عبدالله، وفؤاد مرسى، ولطفى الخولى.. إلخ.
ويكتمل انقلاب السادات على عهد عبدالناصر، بالتحالف مع التيار الإسلامى فى الداخل، والارتباط العضوى بالولايات المتحدة فى الخارج وصولًا إلى الصلح مع إسرائيل، وفى كل هذه التحولات، كانت تسقط أفكار، ويتساقط رجال، وتتبدد أرصدة وتقاليد.
وليس صحيحا أن عصر جمال عبدالناصر، نفسه كان خاليا من الانقلابات الحادة، فلم يكن الصراع مع محمد نجيب وأنصاره من الضباط، ثم الصراع مع جماعة الإخوان، هما فقط ما ضرب الحياة السياسية فى السنوات الأولى لنظام يوليو 1952، ولكن كان هناك صراع داخل مجلس قيادة الثورة، وبين أعضائه بعد أن حل هذا المجلس، فأطيح بالأخوين، جمال وصلاح سالم، ثم حسن إبراهيم، وعبداللطيف البغدادى، وكمال الدين حسين، حتى جاءت هزيمة 1967، التى أطاحت بعبدالحكيم عامر دورا وشخصا ومن قبل كان عبدالناصر قد تخلص من كل الشركاء السياسيين غير الإخوانيين، كالدكتور السنهورى (الحزب السعدى) وسليمان حافظ وفتحى رضوان (الحزب الوطنى) ومجموعة الطليعة الوفدية.
وفى كل هذه الصراعات التى شهدتها عهود يوليو الأربعة كانت كل قيادة تسقط لا تذهب هى وحدها إلى غياهب النسيان، والعزل من الحياة العامة، ولكنها تأخذ معها كل المقربين منها إلى «ما وراء الشمس»، علما بأننا لا نتحدث عن أحكام قيمية مع طرف دون آخر، ولكننا نرصد ونحلل أسباب العجز عن تكوين النخبة.
ربما يعترض البعض على هذه «السردية» بالقول: إن الصراعات والانتصار أو الهزيمة فيها، وكذلك التغيير والإبعاد هى كلها من طبيعة الحياة السياسية فى كل الدنيا، فحتى الحزب الواحد فى الدول الديمقراطية العريقة يتكون من أجنحة تتصارع، وينتصر بعضها، ويخسر الآخرون، وهذا صحيح، ولكن النظم السياسية الناجحة تدير صراعاتها وفق قواعد، لا تدمر النخبة، ولا تبدد التراكم، ولا تبدأ من الصفر مع كل رئيس.. فلماذا تخصص نظام يوليو 1952 فى هذا التبديد، وذاك التدمير؟
أولا: السلطة كانت وحدها فى كل مرة هى أداة حسم الصراع، وليس الحلول الوسط التفاوضية، القائمة على الإقناع والاقتناع، وتبادل التنازلات.
ولم يحدث مرة واحدة فى تاريخ نظام يوليو 1952 أن خسر الرئيس أى صراع، وفى المرة الوحيدة التى عجز فيها الرئيس عن حسم الصراع لصالحه، كان السبب أن جزءًا كبيرًا من السلطة بمعنى القوة متركزا فى يد المنافس، أقصد ذلك الصراع الذى باتت كل تفاصيله معروفة بين جمال عبدالناصر، وبين صديقه ونائبه وقائد جيشه عبدالحكيم عامر.
ثانيا: الخاسر فى نظام يوليو يخسر كل شىء، بل ويزج به أحيانا فى السجن، بمعنى أن المعادلة هنا صفرية.
ثالثا: جميع القيادات فى نظام يوليو منذ بدايته حتى الآن ليس لديهم مصدر من مصادر القوة السياسية سوى ثقة الرئيس، بغض النظر عن توافر المؤهلات الشخصية من عدمه، بمعنى أن كل واحد منهم لا يمثل إلا نفسه، فيبقى دائما أمام الرئيس فردا يسهل التخلص منه فى أى لحظة، بل إن من يشارك فى النظام ممثلا لكتلة اجتماعية كنقابات العمال مثلا، يكون فى الأصل مدينا بوجوده فى مركز القيادة النقابية لأجهزة النظام، وليس لنضاله النقابى.
يسرى ذلك على رؤساء الحكومات، والوزراء، والقيادات الحزبية، والنقابية، حتى لو كان رئيس الحكومة فى قوة رجل مثل زكريا محى الدين عضو مجلس قيادة الثورة، وواضع خطة التحرك ليلة 23 يوليو 1952، أو فى سابقة المساهمة فى انتصار الرئيس على خصومه مثل عزيز صدقى، وممدوح سالم اللذين لعبا دورا حاسما فى أحداث مايو 1971، لصالح السادات.
رابعا: وبما أن رضا الرئيس هو مصدر القوة السياسية الوحيد فى هذا النظام، فإن الإنشغال بالحفاظ عليها، أو الطموح لدور أقوى يولد تنافسا وصراعا غير موضوعين بين الكثيرين، فكم شكا السادات مثلا من الصراع بين رئيس وزرائه عبدالعزيز حجازى وبين وزير داخليته (رئيس الوزراء فيما بعد) ممدوح سالم، وكم تحدث عن الصراع بين سيد مرعى، ومصطفى خليل، وبين نائبه حسنى مبارك، ومنصور حسن.. إلخ، واللافت أن هذه الصراعات أيضا كانت تنتهى بفوز المنتصر فيها بكل شىء، وخسارة المهزوم فيها لكل شىء، فكيف تتكون فى مثل هذه الأحوال تقاليد، وتترسخ مؤسسات، تنتج ما يمكن أن يسمى بالنخبة.
خامسا: كذلك لأن «السياسة» هى رضا الرئيس، فإن الوزراء يختارون أيضا على أسس شخصية، وليس من تيار سياسى يمثل الرؤية التى اختير الرئيس لتنفيذها، ولذا كثيرا ما يدخل إلى الحكومة وزراء يلتقون ببعضهم لأول مرة فى الاجتماعات الحكومية، بل وربما لم يكن يعرفهم رئيس الوزراء نفسه من قبل، وبافتراض حسن النية فإنهم ــ والحالة هذه ــ لا يستطيعون تكوين فريق حكومى إلا بعد وقت طويل، تكون الحكومة فيها قد تغيرت بالكامل، أو أدخلت عليها تعديلات، تقطع الطريق على «روح الفريق».
وبما أن حسن النية ليس مما يعول عليه فى السياسة بحكم أنه «عنصر ذاتى»، ففى أغلب الحالات تنعدم هذه الروح، ومن باب أولى لا تسرى بين السابقين واللاحقين، فلا تسليم ولا تسلم.
**********
ثم إن 90% على الأقل من وزراء يوليو يقولون بعد خروجهم من المناصب: إنهم لا يعرفون لماذا دخلوا، ولا لماذا خرجوا، أما من يعرف منهم فيظل صامتا حتى يواريه التراب، أو يوارى التراب الرئيس، وعندما حاول البعض مثل المشير أبو غزالة، والمهندس حسب الله الكفراوى الحديث، فقد نشرت الصحف أن كلا منهما هدد فى شخصه، وفى أبنائه.
على طريقة الأستاذ العقاد نقول: إن العجيب ليس هو أن نظام يوليو 1952 لم يصنع نخبة سياسية، ولكن العجيب هو أن ينجح نظام كهذا فى تكوين مثل هذه النخبة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved