صناعة السلام فى المجتمع من خلال التراث الصناعى

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الثلاثاء 15 يونيو 2021 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

فى مدن مصر المختلفة ومنذ بداية عهد محمد على وبداية القرن العشرين تتواجد العديد من أماكن الصناعة، لا يزال بعضها لحسن الحظ موجودا وإن كان بلا عمل أو إنتاج حقيقى ومن المهم النظر إلى تلك الأماكن كموارد هامة للغاية للمجتمع. يذهب العديد من المهتمين بتلك الأماكن، وخاصة التى تحتوى على عمارة متميزة وتقع فى أماكن هامة، إلى المناداة بالحفاظ عليها أو إعادة استخدامها فى نشاطات ثقافية كمتاحف نوعية مثلا. مع تقديرى لتك الأماكن وعمارة بعضها فأنا لست من هؤلاء المنادين ببناء متاحف جديدة. لدى بعض الإشكاليات مع فكرة المتحف ذاتها ولكن ليس هذا مكانها. ولكننى من خلال عملى على أحد تلك الأماكن فى مدينة القصير وخاصة موقع شركة الفوسفات لعدة سنين مع طلبة الماجستير وأيضا من خلال بحث ممتد يهدف لتطوير مقترحات حقيقية قابلة للتطبيق كان لنا تصور آخر. هذا التصور الذى يدخل فى اعتباره الموارد المتاحة المحلية واحتياجات المجتمع والتأثير الصناعى على البيئة ينتج لنا مقترحا آخر يبنى على ما يسمى «الصناعة النظيفة» أو الإنتاج الذى لا ينتج عوادم ولا يضر بالبيئة. ويهدف هذا التصور أولا لمعالجة الآثار البيئية الضارة التى نتجت عن عقود من التصنيع والتى تسببت فى الإضرار بالبيئة من خلال تدخلات صغيرة تترابط وتتراكم لمعالجة تلك الأضرار السابقة وإتاحة تنمية مستدامة ونظيفة فى مكانها. وفى هذا الإطار أيضا يعتبر كل مبنى والمواد الداخلة فى تنفيذه موردا هاما لا يجب التخلص منه (للأسف تم التخلص من العديد من الأجزاء المعدنية خلال السنين القليلة الماضية والتى لا شك أن قيمتها الحقيقية تتجاوز بكثير وزنها).
ويتيح لنا هذا التصور المركب للتعامل مع التراث الصناعى إمكانات لا محدودة ليس فى القصير فقط ولكن فى العديد من المدن المصرية والتى لازال بعضها يحتفظ ببعض من التراث الصناعى. وبجانب التركيز على الإنتاج النظيف نركز أيضا على إيجاد فرص تعليمية وربما بحثية لأننا نفهم أن واحدا من أهم أسباب تدهور الصناعة كنشاط اقتصادى فى مصر هو غياب الرابطة الوثيقة مع البحث والتطوير والتى تضمن مجاراة المنتج لمتطلبات الأسواق والتحديات التى تواجهه، ويظهر ذلك بوضوح فى العديد من المناطق الصناعية الكبرى فى مصر سواء فى حلوان أو المحلة أو الاسكندرية. وفهمنا لهذا التراث لا ينفصل عن فهمنا عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التى تواجه مجتمعنا ونعتقد أن هذا ما يمكن أن يؤكد على استدامة هذا المدخل.
•••
قمت بعرض المدخل الذى نعتمده من خلال تجربتنا فى أرض شركة الفوسفات فى ندوة دولية عن التراث الصناعى فى عدة دول كما قام العديد من الزملاء بعرض أفكارهم وتصوراتهم. وبعد العروض الشيقة التى قدمها بعض الخبراء الدوليون وفى خلال نقاش مفتوح أثار البعض إشكالية تمويل الأنشطة المقترحة لتلك الأماكن ذات القيمة الكبيرة. وكنت أعلق فى النهاية على مقولة أننا بحاجة لأنشطة مربحة حتى يمكن جذب المولين وأموالهم حتى نتمكن من الحفاظ على عمارة وعمران تلك الأماكن. ومع اتفاقى على أهمية أن يكون أى مشروع أو تدخل فى تلك الأماكن الصناعية اقتصاديا إلا أننى أشرت إلى أن الإشكالية الحقيقية تكمن فى كيفية حساب العائد فى تلك المشروعات. فى العادة هناك نوعان من العائد: أولهما مباشر مادى ويمكن قياسه بسهولة وثانيهما غير مباشر ناتج من فوائد مثل تحسين البيئة وخاصة المياه والهواء والتربة. وفى ضوء تطور حسابات العائدات غير المباشرة فى العالم تمكنت العديد من الدول من فرض ضرائب مثلا على استخدام الكربون لتغطية التكلفة الصحية الناتجة عن حرق السيارات للوقود الأحفورى مثلا. وتستخدم عائدات تلك الضرائب فى مشاريع تركز على تحسين جودة الهواء. وبالنسبة لنا فى القاهرة فقد قام البنك الدولى بدراسة استمرت أكثر من عام لتقدير تكلفة تلوث الهواء والماء السنوى. وكانت النتيجة صادمة للبعض حيث بلغ التقدير الذى انتهت له الدراسة لسبعة وأربعين مليار جنيه (نعم مليار). وبالطبع يمكن النظر لمواقع التراث الصناعى والتى تشغل فى العادة مساحة كبرى وأصبح العديد منها فى وسط مناطق مأهولة نتيجة للتوسع العمرانى فى العقود السابقة على أنها إحدى الأدوات والفرص الكبرى لمواجهة تلوث الهواء من خلال استخدامات تغلب عليها الأشجار والنباتات.
ما حدث ويستمر فى الحدوث للأسف فى العديد من المناطق الصناعية التى تتوقف فيها الصناعة وبعضها بالطبع يدخل فى نطاق التراث الصناعى أن حساب العوائد اقتصر على تلك التى يمكن قياسها بصورة مباشرة وتم إغفال العوائد البيئية والصحية والتى هى فى الأغلب أكبر ولكن حسابها أصعب ولكن ممكن. والنتيجة المباشرة للأسف هى هدم كل أو جزء كبير من تلك المنشآت وتحويل أراضيها إلى ما يمكن بيعه بأسعار كبيرة والحصول على عوائد ضخمة، وتتحول سريعا إلى أبراج سكنية تزيد من الازدحام ومشاكله ويتنافس سكانها الجدد على البيئة الطبيعية مع جيرانهم. تخيل لو أدخلنا حساب التلكفة والفوائد البيئية وتقدير العائد من عمل حديقة شجرية فى المكان بالإضافة إلى المحافظة على المبانى ذات القيمة وإيجاد استخدام ملائم لها سواء من الأنشطة النظيفة الانتاجية أو التعليمية التى يحتاجها المجتمع بشدة، هل سيظل بيع الأراضى وإنشاء الأبراج السكنية هو الحل الأقرب أم سنزيل الأتربة عن جواهر صناعية وثقافية بالإضافة إلى تحسين الحياه فى المدينة من خلال تنظيف هوائها ومائها.
•••
لقى تعليقى استحسانا من أحد المشاركين فى الورشة من بلد آخر وقال إن الاستثمار فى صيانة وتطوير ذلك التراث الصناعى هو فى حقيقته استثمار فى السلم الأهلى. وأعجبت كثيرا بما قال لأنه أصاب الحكمة الحقيقية من عملنا فى صيانة وتطوير التراث العمرانى سواء الصناعى أو الثقافى وهى تحسين أحوال المجتمع من خلال خلق وظائف مستدامة وتوفير روابط جديدة بين المجتمع والبيئة وهو ما يساعد فى تطوير ثقافة يستطيع من خلالها أفراد المجتمع التبادل والتواصل والتعلم المشترك بدلا من التنازع والتسابق على هدر مواردنا بدون أن ندرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved