سلامة أحمد سلامة..الكاتب والإنسان

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الإثنين 16 يوليه 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

المال والمنصب والشهرة.. كل واحد من هذه الثلاثة يمكن له وحده أن يفسد أكثر الناس، فكيف إذا توافرت كلها لشخص واحد؟ وهى قد توافرت جميعا لكاتبنا الكبير، وأستاذنا الراحل سلامة أحمد سلامة، إلا أنه كان عصيا على الإفساد.

 

وإذا كنت قد بدأت بالمال، فأرجو أن لا يتبادر إلى الأذهان أن الراحل الكريم كان من الكتاب ذوى الثروات الطائلة، أو الدخول الفلكية التى نعرف الآن أن نفرا من كبار الصحفيين، ومتوسطيهم بل وصغارهم كانوا يتقاضونها من مصادر شتى، لا سيما فى المؤسسة التى قضى فيها زهرة عمره، وشغل فيها سنين طويلة موقع المسئول الثانى عن تحريرها، أى «الأهرام».

 

ومع ذلك فقد كانت فرص الإثراء مفتوحة أمامه للاغتراف منها، بشرط واحد هو أن يكتب قلمه ما يريده «الممولون»، وليس ما يريده هو، حتى وإن كان ما يريده أولئك لا يتعارض مع آرائه، وهنا أذكر واقعة محددة تبدأ بغزو صدام حسين للكويت، إذ تقاطر المبعوثون الإعلاميون الخليجيون على القاهرة حاملين الشيكات والساعات الذهبية المرصعة وغيرها من الهدايا النفيسة لتوزيعها على كبار الكتاب والصحفيين والإعلاميين المصريين، ضمانا أن لا يشذ أحدهم فيفتح ثغرة فى حملة التعبئة ضد صدام حسين وعدوانه على الكويت، وأن لا يعارض أحد الاستعانة بقوات غير عربية لدحر الغزو العراقى، وكان أستاذنا الراحل من المعارضين الدائمين لسياسات صدام فى الداخل والخارج، ومن الرافضين بقوة لجريمته ضد الكويت، والقارئين مبكرا لعواقبها الكارثية على العرب جميعا، ولكنه ــ وبدون أدنى عناء ــ رفض أن ينظر إلى ما يقدم إليه، فضلا عن أن يقبله، ومما زاد من جلال رفضه أنه فعل ذلك بكلمة شكر معاتبة بصوته الخفيض، وبوجه احمرَّ خجلا، وكأنه هو الذى يقدم الرشوة، وليس هو من تعرض عليه الرشوة.

 

تكرر هذا الموقف فى مناسبات  أخرى، فى وقت كان غيره ممن يوصفون بالكبار يطلبون هذه الرشاوى بألسنتهم، وكان بعضهم يعقد اتفاقات صريحة لتأجير أقلامهم لهذه الدولة أو تلك، أو لرجل الأعمال هذا أو ذاك، ولمسئولين كبار فى السلطة المصرية ذاتها، حتى أن أحدهم أثار فضيحة فى فندق خليجى عندما اكتشف أن هداياه أقل من هدايا نظير له، وفى وقت كان كبار رجال الدولة يتهافتون على الهدايا الخليجية، ويسخرون ممن يرفضها، وإليكم هذه القصة التى رواها وزير محترم راحل فى نظام مبارك، ففى أول زيارة له مع رئيس الجمهورية إلى عاصمة خليجية، فوجئ الرجل فى رحلة العودة بمن يشكوه إلى الرئيس لأنه رفض أخذ «هديته»، وعندما سأله رئيس الجمهورية عن السبب، رد بأنه استشعر الحرج من أخذ هدية كهذه وهو فى معية الرئيس احتراما لمقام رئيس الدولة، فما كان من مبارك إلا أن رد ساخرا: ولماذا إذن تتصورون أنى أصحبكم معى فى هذه الزيارات؟!

 

ومثلما كان الأستاذ سلامة مترفعا عن إغراء المال، فقد كان أىضا عصيا على غرور السلطة، وفتنة الشهرة، مثلا لم يستعمل طوال وجوده فى المناصب الكبرى سوى تعبير «من رأيى» عندما كان يريد أن يوجه نصيحة أو انتقادا، سواء كان يتعامل مع محرر مبتدئ أو مع زميل كبير، وكثيرا ما رأيته ينحنى ليلتقط ورقة مهملة من طرقات الطابق الرابع بالأهرام ليضعها فى أقرب صندوق نفايات، كما كان مشهورا عنه أنه يركب بجوار السائق، ولم يكن يوما من طارقى الأبواب، أو من أصحاب «الشلل» ــ الخارجية، والميليشيات الداخلية ليستقوى بها على أحد، أو يحفظ بها مصلحة خاصة، كتب بقلمه ذات مرة، فى سياق تأبينه للراحل الشامخ نجيب محفوظ ليفسر لنفسه وللقارئ السبب فى عدم الاقتراب الكافى من محفوظ، كتب يقول: «إنه لم يكن يوما من هواة زيارة الأضرحة، أو الطواف حول أصحاب المقامات والمناصب، علما بأنه كان يضع الأستاذ نجيب محفوظ فى أعلى المراتب داخل نفسه، مثلنا جميعا.

 

تحدثنا فيما سبق عن بعض الملامح فى شخصية سلامة أحمد سلامة الكاتب والإنسان كما رأيتها من قريب، ونختتم الآن بكلمة مختصرة ومركزة حول قيمة الراحل الكبير من الناحية المهنية البحتة، فقد كان هو القلم الذى ملأ بموهبته ونزاهته فراغا سحيقا خلفه رحيل أستاذنا الأكبر أحمد بهاء الدين فى فن كتابة العمود الصحفى والتعليق السياسى، وفى النفاذ ببساطة مذهلة إلى ما لا يراه غيره، حتى أن قارئه ليقول لنفسه: كيف لم أدرك ذلك؟ وكان من القلائل بين جيله الذين جمعوا ما بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية، وما بين خبرات العمل فى الداخل والخارج.. كما كان نموذجا فى الانتماء الوطنى غير المتعصب، وفى الالتزام بالحرية كقيمة عليا تحكم الفكر والعمل والكتابة.

 

أستاذى الراحل: عزائى شخصيا فيك كل هذا الحب والتقدير والاعتراف فى مصر، والعالم العربى، والعالم الخارجى. رحمك الله وعوضنا عنك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved