مراجعات ما بعد نيس

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الجمعة 15 يوليه 2016 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

صور الترويع فى شوارع «نيس»، أجمل مدينة سياحية فرنسية، تنبئ بما بعدها من مراجعات فى أوروبا والإقليم ومصر نفسها.


للصور آثار عميقة على التداعيات المحتملة تفوق طاقة التصريحات الرسمية لأى مسئولين كبار، وأية تقارير للأجهزة الأمنية عن الجهات الضالعة فى الحادث، وأية تعهدات بتشديد الحملة الدولية على الإرهاب.


فى الصور التى رآها العالم فزع على الوجوه وهرولة فى المكان هربا من الموت بعد دهس مئات الفرنسيين بشاحنة مسلحة أثناء احتفالاتهم بيوم سقوط سجن «الباستيل» الذى أطلق واحدة من أعظم الثورات وأبعدها أثرا فى التاريخ الإنسانى.


بشكل أو آخر فإن الصور تحدد الإطار العام الذى تتحرك فيه المراجعات.


بقدر الترويع العام تأخذ المراجعات مداها وأثرها ممتد إلى هنا.


أولى المراجعات التساؤل بجدية أكبر عن مستوى جاهزية وكفاءة الأجهزة الأمنية فى توقع وإحباط مثل هذه الحوادث الإرهابية.


لم يكن التوقيت بذاته مفاجئا.


مناسبة الثورة تغرى بإفسادها حتى يكون الأثر واسعا ورسالة الإرهاب واصلة.


بالتعريف فإن الإرهاب عمل عنيف لأهداف سياسية.


تحت الشعور بالخطر المحتمل ألغت السلطات الفرنسية كل احتفالات هيئاتها الدبلوماسية فى المدن التركية، «أنقرة» و«استنبول» و«أزمير»، خشية تعرضها لعمليات إرهابية.


رغم أن السلطات نفسها نجحت فى تنظيم بطولة الأمم الأوروبية «يورو ٢٠١٦» دون حادث إرهابى واحد يفسد تلك المناسبة الرياضية الكبرى إلا أنها بوغتت فى «نيس».


الأمن المطلق وهم مطلق، وكل ما تطلبه أية دولة فى العالم تخفيض مستويات الخطر، وقد كان ما حدث فى «نيس» مريعا والقصور لا يمكن إنكاره.


بتكرار الحوادث الإرهابية سوف ترتفع اللهجة الأمنية على ما سواها، وتختفى فى الظلال أية أحاديث عن معاناة الفرنسيين ذوى الأصول العربية فى الضواحى والتمييز ضدهم، أو أية أحاديث معتادة تفصل بين سماحة الإسلام وإرهاب المتطرفين.


ثانى المراجعات التساؤل بأثر الفزع عن كفاية مستويات التنسيق الأمنى الأوروبى وأوجه الخلل والإجراءات الممكنة ومستقبل الاتحاد الأوروبى نفسه.


بترجمة أمنية فإن الإرهاب الذى ضرب «نيس» بقسوة يزكى نزعات الخروج من الاتحاد باسم تأمين الدول من استخدام حرية الحركة داخله فى نقل السلاح وتوفير الخدمات اللوجستية للخلايا الإرهابية كما حدث فى حوادث سابقة بين باريس وبروكسل.


وبترجمة سياسية فإنه يدعم النزعات الشعبوية اليمينية فى أوروبا ويقوض الأحزاب الليبرالية واليسارية التى تتداول السلطة.


بذات القدر فهو ينال من القيم الفرنسية فى التسامح الدينى واحترام حرية الاعتقاد ويفضى إلى تقييد حقوق الجاليات العربية والإسلامية، الضحية الأولى لمثل تلك الأعمال الإرهابية.


بكلام آخر فإن الإرهاب الذى ضرب «نيس» ضرب بالوقت نفسه الإرث الحضارى الأوروبى وصورة الإسلام التى تضررت على نحو يصعب ترميمه فى أى مدى منظور.


ثالث المراجعات التساؤل عن تأثير تواتر العمليات الإرهابية فى فرنسا، واحدة إثر أخرى، على اقتصادها ومستويات تدفق السائحين إليها.


اختيار «نيس» ينطوى على تعمد الإضرار بالسياحة الفرنسية التى تتصدر التصنيف العالمى، حيث زارها فى عام (٢٠١٥) نحو (٨٥) مليون سائح.


لماذا استهداف فرنسا بالذات؟


حيث أهم المراكز الأوروبية فإن كل ضربة إرهاب مدوية ورسائلها السياسية حاضرة على وسائل الإعلام.


بعض الأسباب لمركزيتها الأوروبية وثقلها الحضارى، فعاصمة النور ليست أى عاصمة وفرنسا ليست أى بلد.


وبعضها الآخر لأنها تقع فى متناول سلاح الإرهاب وتنظيماته التى توظف مشاعر التهميش لنسبة كبيرة من ذوى الأصول العربية والإسلامية فى صفوفها.


بخشية تفلت الأمن وتدهور الاقتصاد معا فإن معدلات الكراهية لكل ما هو عربى ومسلم سوف ترتفع إلى حد يصعب بعده أى حديث جدى عن خطط الدمج الاجتماعى.


رابع المراجعات التساؤل بقلق مفرط عن السياسات المتبعة فى مواجهة «داعش» والتنظيمات المتطرفة الأخرى بمناطق تمركزها فى سوريا والعراق.


الرئيس الفرنسى «فرانسوا أولاند» أشار إلى مثل تلك المواجهة وحليفته الألمانية المستشارة «أنجيلا ميركل» وصفت الموقف كله بـ«الحرب».


الكلام على هذا النحو ليس جديدا، فهو يتكرر بنصوصه عند كل حادث إرهابى.


أرجو أن نتذكر أن مباحثات «فيينا» لحلحلة الأزمة السورية انطلقت فى أعقاب أعمال إرهابية مماثلة ضربت «باريس» غير أن النتائج الأخيرة لم تتسق مع حجم الاستخلاصات التى سادت الفضاء العام الغربى.


قبل صدمة «نيس» خرجت إشارات من عواصم دولية، بينها «باريس»، تربط ما بين المسار السياسى والحرب على «داعش» فى أية عملية تفاوضية محتملة لإنهاء الأزمة السورية.


على الأغلب فإن ذلك هو المسار العام ووتيرته مرشحة للتصاعد فى الأسابيع المقبلة.


المشكلة الفرنسية هنا أن الملف السورى، شأن الملفات الأخرى فى الإقليم المشتعل بالنيران، ليس فى حوزتها، وللاعبين الكبيرين الروسى والأمريكى حسابات تتعارض فى بعض المفاصل ما تطرحه «باريس» مثل إبعاد الرئيس السورى «بشار الأسد» من أية مرحلة انتقالية محتملة باعتباره جزءا من المشكلة لا الحل.


من المتوقع الآن أن تطور «باريس» ما صدر أخيرا عن وزير خارجيتها من استعداد لتقبل وجود «الأسد» والميل بدرجة أوضح إلى الموقف شبه المشتركة بين القوتين الكبيرتين.


رغم ذلك فإنه يصعب التعويل على إنهاء الإرهاب فى أى مدى منظور.


هناك فارق بين تصفية تمركزاته على الأرض فى سوريا والعراق، وهذه خطوة باتت محتمة بكل الحسابات الدولية، وبين تصفية الإرهاب كله.


عند إنهاء تمركز «داعش» فى «الموصل»، ثانى أهم المدن العراقية، على ما يشير سير العمليات العسكرية الجارية فإن ذلك سوف يؤدى إلى نتيجتين رئيسيتين.


أولاهما، قرب إنهاء أية تمركزات أخرى لما تسمى بـ«الدولة الإسلامية» فى سوريا.


وثانيتهما، توسع «داعش» فى العمليات الإرهابية حيث تستطيع أن تصل وتضرب وتوجع حتى يمكنها أن تقول إنها مازالت موجودة ومشروعها فى بناء الدولة الإسلامية لم يمت.


إننا على مواعيد مقبلة مع الإرهاب وعملياته هناك فى قلب أوروبا وهنا فى الإقليم وداخل مصر.


بدورنا نحتاج إلى مراجعات عند الجذور، فلا توجد استراتيجية شبه متماسكة لمكافحة الإرهاب.


تغول الأمن خارج أدواره يساعد على توفير بيئات الاحتضان والتجنيد وتمركز التنظيمات الإرهابية.


وضيق المجال العام وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان والخصومة مع الأجيال الشابة تفضى لتداعيات سلبية بالغة الخطورة على التماسك الضرورى للمجتمع فى مواجهة كتل النار.


فضلا عن ذلك كله فإنه لا توجد أية خطوات لها صفة الجدية فى إصلاح الخطاب الدينى ولا احترام الدستور الذى يكرس مفاهيم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التى تحارب الإرهاب دون أن تفقد كرامة مواطنيها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved