سبب غروب شمس لغة الضاد.. لماذا اللغة العربية الفصحى مستعصية على الألسنة العربية؟

مواقع عالمية
مواقع عالمية

آخر تحديث: الإثنين 15 يوليه 2019 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع «قنطرة» مقالا للكاتبة «منى سركيس» تتناول فيه أسباب تراجع الاهتمام باللغة العربية الفصحى لصالح اللغات الأجنبية.

لغة سامية كبرى من أهم لغات الكرة الأرضية، وإحدى لغات الأمم المتحدة الست الرسمية، لغة القرآن الكريم وابن عربى وغيره من العلماء والفلاسفة. وعلى الرغم من ذلك لا تتمتع العربية الفصحى بين أبنائها بمكانة رفيعة. ما هى الأسباب التى تقف وراء ذلك وما هى نتائج احتكار طغاة السياسة والمتعصبين للفصحى على الشعوب العربية.

يعرف كل طالب أجنبى درس الألسنيات العربية تلك المفارقة: بعد سنين طوال من مذاكرة واجترار دروس الفصحى المستعصية يذهب الطالب لزيارة الناطقين بالعربية فى بلدانهم ليكتشف بأنهم يتحدثون كل شىء سوى ما درسه فى كتاب تعليم العربية لغير الناطقين بها. فحتى لهجة السورى القادم من الساحل تختلف عن لهجة البدوى القاطن شرق البلاد. فإن سألهما شاب جزائرى «ديرونْجيتِك؟» (هل أزعجتك؟) فستعترى الحيرة نظرات كلٍّ منهما. تماما كما لو خاطبهما مصرى قائلا «سْبِلَها» (أسمعنى تهجئة حروف الكلمة). فالكلمة الأولى مشتقة من فعل «déranger» وهى من بقايا الاحتلال الفرنسى، بينما استُعيرت كلمة «سْبِلَها» من الفعل الإنجليزى «to spell» وهى دليل على بقاء آثار لهيمنة الاستعمار البريطانى بعد عقود من مغادرته. وأما سوريا فهى تَعتبِر نفسها فى المقابل قلب العروبة النابض ولذا فهى ترى أن مثل هذا الخليط اللغوى أمر لا يمكن السماح بالتفوه به.

تفصل بين مناطق الشرق الأوسط خطوط سياسية وإثنية؛ إنها حقيقة تجعل من التواصل الشفهى بين ساكنيه البالغ عددهم 360 مليونا أمرا صعب المنال.. خاصة أن لهجاتهم المتنوعة فى حالة تطور وتغير مستمر.

إذن فكون اللغة العربية تشهد ازدهارا ليس بالأمر المطروح للجدال، ولكن هذا الازدهار ينطبق فقط على العامية المحكية على وجه التحديد. وفى الأثناء تعيش الفصحى فى عالم موازٍ لا يرتاده الكثيرون لا تبارح فيه مكانها. ففى دول الخليج العربية على سبيل المثال أضحت الإنجليزية تلقى بظلالها على العربية وبشكل متسارع: إذ يستخدم 68 بالمائة من الخليجيين من الفئة العمرية بين 18 و24 عاما الإنجليزية أكثر من العربية الفصحى، بحسب استطلاع أجرته شركة بيرسن مارستلر للعلاقات العامة سنة 2017، وهو ما يشكل ارتفاعا بنسبة 12 فى المائة مقارنة بسنة 2016.

الرقمنة فى مواجهة العربية الفصحى
يعتقد البعض أن اللغة الإنجليزية «أكثر دقة فى التعبير وأكثر حيوية وهى مسايرة لروح العصر». فى المقابل ليس بمقدور اللغة العربية ذات المفردات المُنمَقة والشاعرية وذات الجُمَل المتداخلة التراكيب «أن تُجارى الركب فى عالم مُرَقمَن »، لم يسبق للكثير منا أن يحاول كتابة رسالة نصية باستعمال الفصحى؟».

فى حين يرى البعض الآخر أن اللغة العربية سليلة منطقة جغرافية لم تُسهم فى إنجازات الحداثة منذ زمن بعيد. فكل الذين توصلوا لإنجازات علمية حققوا تلك الإنجازات فى بلدان غربية وعلى وجه الخصوص فى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثم فإن الشرق الأوسط متخلف وليست لغته الفصحى الممتنعِة إلا انعكاسا لهذا الواقع.

الهروب من الهويات المتصلِّبة
يتمتع شباب دول الخليج الغنية بمستوى تعليمى متميز وهم يريدون إثبات مهاراتهم تلك فى سوق العمل الدولية. إذن من المنطقى أن يرى أولئك الشباب فى استخدام الإنجليزية بديلا للغة العربية وسبيلا أفضل يُيسر لهم بلوغ أهدافهم.

سئم كثير من الشباب العربى الضغط المتواصل الذى يتعرضون إليه، فحينما تُتاح لهم فرصٌ تعليمية كما هو الحال فى دول الخليج أو حتى فى لبنان فإن تركيزهم سوف يكون مُنصَبا على تعلم اللغات الأجنبية. «فقط بهذه الطريقة سيكون بمقدورهم الظفر بوظيفة لدى شركة عالمية يتنافس عليها الكثيرون ومن ثم فى الوقت ذاته التنصل من قبضة مجتمعاتهم الخانقة».

وبناء على ما سبق لا تَجعل العربية الناس يشعرون بالفخر، ولكن الأمر الأسوء هو أن الذين لا يشعرون بالضجر من تلك اللغة هم قلة قليلة فقط.

الضجر كمادة أساسية
المتسبب فى كل هذا بالدرجة الأولى هى نظم التعليم العربية التى تحاول على ما يبدو حرمان التلاميذ من بهجةَ تعلم لغتهم الأم وذلك باعتمادها التام على الحفظ الممل والتلقين. إذ لا يشير المنهج الدراسى إلى حقيقة أن كل تلك الحروف العربية المزركشة قد تكون من صميم الحياة الواقعية. وذلك على الرغم من وجود تراث أدبى عربى غزير وثرى جدا يمتد لقرون طويلة.

ولكن هذا لا يعنى بأية حال أن العرب لا يعرفون شعراءهم. بل على العكس؛ فبإمكان المواطن العربى العادى، خلافا لنظيره الغربى، أن يلقى بيت شِعر تلو الآخر عن ظهر قلب. ولكن السؤال المطروح هنا هو: عندما يستشهد مواطن عربى ببيت شعر من شعر المتنبى (915ــ965 م) على سبيل المثال:

وما الخوفُ إلا ما تَخوَفه الفتى وما الأمنُ إلا ما رآهُ الفتى آمِنَا
فهل يقتبس شعر المتنبى لأنه قد حفظه نتيجة للتكرار المستمر أو لأنه قد تمكن من شىء من حكمة ذلك الشاعر الفصيح المولود بالعراق؟

لا شك فى أن قادة دول الشرق الأوسط فى العصر الحديث لا يرغبون بنقاش قد يُثرى المعلومات بتفاصيل تاريخية. ولكن يوجد هنالك أيضا أدب معاصر ذو طابع غير مُسيس منظوم بطريقة مشوقة.

امتناع ذاتى عن اللغة العربية
لا شىء أكثر دلالة على نجاح استراتيجيات التثبيط التى تتبعها السلطات تجاه سوق الكتاب العربى. ففى سنة 2011 تم نشر نحو 17 ألف عنوان جديد من بينها 2400 كتاب مترجم إلى العربية. وبحسب تلك الأرقام فقد أنتج العالم العربى بسكانه البالغ عددهم 360 مليونا نفس الكم من العناوين التى أنتجتها دولة مثل رومانيا بسكانها الـ 21 مليونا.

إذن من الصعب نفى حقيقة أن الأنظمة العربية قد ساهمت عن طريق رقابتها التى لا تغيب وعن طريق البرامج التعليمية العقيمة فى تشجيع حالة عدم الاكتراث باللغة الفصحى. ولكن هل شجعت الأنظمة بالمقابل الاهتمام باللهجات العامية المحلية؟ وهل أدى ذلك لما يمكن أن نصفه بأنه رفض ذاتى لاستخدام الفصحى؟

هذا هو ما يعتقده البعض. فقد اعتاد العرب على امتداد تاريخهم على الاعتناء بلهجاتهم المحكية، ولكنهم فى السنوات السبعين الأخيرة كانوا محكومين من قِبل قادة مستبدين لم يجلبوا معهم إلا الخوف والمشكلات الاقتصادية. ولم يتوقف هؤلاء الحكام قط عن مخاطبة الجماهير فى كل قناة وفى كل مقال صحفى بالعربية الفصحى. ويحدُث كل هذا عن غير قصد فى كثير من الأحيان، ولكن يحدُث فى أحيان أخرى عن سبق إصرار.

وفى المحصلة النهائية يقودنا كل ما سبق إلى أن نطرح تساؤلا غير سارٍ بالمرة: من ذا الذى يمتلك السلطة على اللغة المكتوبة؟ فإن كان التمكُن من الفصحى واستخدامها بسلاسة حِكرا على الطغاة من الحكام أو على المتعصبين دينيا فإن خطر التلاعب بالجماهير فى الشرق الأوسط المعاصر هو أمر لا مفر منه.

النص الأصلى:

https://bit.ly/32ucmFW

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved