نخطئ كثيرا وقلما نعتذر

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 15 أغسطس 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

أخطأ فى حقى ولم يعتذر، رجل كالرجال يتخيل أنه لو اعتذر مرة واحدة فقد هيبته فى بيته إلى الأبد، يريدنى أن أغفر له فعلته دون أن يعتذر. يقول عن صديقتنا وعن جارتنا إنهما لا تلحّان فى طلب اعتذار من زوجيهما عن أخطائهما والأمور فى بيتيهما تسير على ما يرام، أرد عليه بأن الأحوال فى البيتين ليست على ما يرام كما يعتقد. أنا أدرى منه بما فى الصدور وفى النوايا وبأعمال لا تراها إلا عين الريبة أو الفضول.. شرحت له أكثر من مرة أن رجلا يعيش حاملا وزر خطأ إنما يمشى بين الناس كما يمشى شخص يرتدى حذاء دخلت إليه حصى أو يرتدى قميصا لطخت صدره بقعة حبر أو تأنق بربطة عنق سقطت عليها قهوة من فطور الصباح، لن يهدأ باله ويتصرف على طبيعته إلا إذا تخلص من الحصى فى حذائه والبقعة من على قميصه وربطة عنقه.

***

تدخل أصدقاء الخير ليعتذر الزوج فاعتذر، ولكن لم تقبل الزوجة اعتذاره. قالت له أمام حشد حريص عليهما، سمعتك تعتذر ولم أشعر بك تعتذر. كلماتك لم تتجاوز طرف لسانك لتعبر عن حقيقة ما يدور فى صدرك. أقبل اعتذارك فى حالة واحدة، أن يأتى ومعه ضمانات ألا يتكرر الخطأ. هذه الضمانات لا تكون بالكلمات. أقبل اعتذارك إذا صمدت عيناك أمام عيناى، ولم ترجف يداك وهما بين يداى، وإذا ارتاح قلبى. أستطيع أن أفعل ما تفعله صديقتنا وجارتنا وما تفعله شقيقتى وربما فعلته أمى على مدارات السنين. أتظاهر بقبول اعتذار أعلم حق العلم أنه لم يصدر من قلب ولا يرافقه ضمان واحد بعدم تكراره، أقبله فقط لزوم «الاستقرار العائلى» والمظاهر الاجتماعية وما فى القلب يبقى فى القلب.

***

ستطردت فى الحديث بعد أن انتشر معظم الحشد فى أنحاء متفرقة من المكان. أرادتنى شاهدا على صدق ما تقول. قالت، سمعتهن وهن يطالبننى همسا بأن «أفوت»، أن لا أعند وأتصلب وأزيد الأمور تعقيدا. قالت احداهن، فى همس أكثر خفوتا، الرجال يخطئون ونحن أيضا نخطئ. لا تطلبى المكاشفة وتصرى عليها فالمكاشفة ليست دائما فى صالحنا. أخطاؤهم إن اعترفوا بها سوف يعتذرون عنها وسنغفرها، أما أخطاؤنا فلن يغفروها لنا وإن اعتذرنا.
أنت خير من يعرف موقفى. لا يقوم طويلا حب على كذب. أشباه الحب كثيرة وتقوم عليها بيوت أيضا كثيرة، بعضها يعيش طويلا وأكثرها لا يعيش إلا قليلا، والإحصاءات الأخيرة للأسف تؤكد ما أقول. لم أفترض حين تزوجت أننا سوف نلتزم بالأمانة الواجبة والدقة المتناهية بعهد المصارحة. كنت تعلمت من تجارب ما قبل الزواج ضرورة أن احتفظ فى صدرى بشىء لنفسى. لم أطلع عليه أمى ولا شقيقتى، حتى أنت أبقيته عنك سرا بين أسرارى التى لا تعرفها إلى يومنا هذا. لم أطالب زوجى بسيرة حياة فى طول وتفاصيل سير الحياة التى يتقدمون بها هذه الأيام إلى جهات التوظيف. لم أطالبه ولم أتطوع بواحدة من عندى.

***

تعلمت أيضا أن فى الاعتذار فوائد عديدة. كلنا نخطئ وقليل من يعتذر. عودت نفسى ألا آوى إلى فراشى إلا بعد أن أكون قد اعتذرت لكل من أخطأت فى حقه خلال اليوم. أقضى ساعات ما بعد ارتكابى الخطأ قلقة ومتوترة حتى اعتذر فأعود إلى بشاشتى المعهودة وإلى سلامى العقلى والقلبى. آمنت، وكثيرا ما ناقشت الأمر فلسفيا معك، آمنت بأن العيش مع وزر خطأ كفيل بأن يقطع الحبل الذى يربط الماضى بالمستقبل. عشت واثقة من أننى لن أحصل على المستقبل الذى أحلم به طالما ظلت معلقة بإزارى أوزار أخطاء من الماضى. أمشى فيخيل إليّ أننى، لو كنت استسلمت لها وعشت عبدا لها، لمشت هذه الأوزار فى ركابى كالغربان تطارد بأصواتها أحلامى وآمالى فى مستقبل أفضل من الماضى.

***

صديقى الأكبر سنا وخبرة، لن أطيل عليك فلعلك سئمت أحاديث النساء وشكاواهن بعد أن كثرت وتشعبت فى السنوات الأخيرة. لن أعمم، كما يعممن، فأتهم كل الرجال بخاصية أو أخرى، هى لدى البعض منهم وليس الكل. أخشى أن يجرفنا التيار الذى سبق أن جرف جماعات شعرت بالغبن وجاءتها فرصة الشكوى ثم فرصة لاسترداد الحق، استعذبت الحق الذى استعادته فراحت تكيل الاتهامات للجماعة التى كانت ظالمة. تحولت، أو هى تتحول بلذة المتحرر وطاقة النصر، من مقهور إلى قاهر. أخشى علينا، نحن النساء، من هذا المصير.

***

لست من أنصار الاعتذار الجماعى لاستعادة السلام الاجتماعى أو الدولى. اعتذر الشعب الأبيض للشعب الأسود فى أمريكا عن أفعاله الوحشية عبر القرون، ولم يهدأ الخصام بل يستعر أشد مما كان. اعتذر بابا الفاتيكان عن أعمال دنيئة ارتكبها رجال دين من أتباع كنيسته فى بعض المجتمعات، ومع ذلك لا يبدو أن هناك قبولا فى هذه المجتمعات لهذا الاعتذار. فى نظر الناس هو غير كاف وسيبقى غير كاف طالما لم يغير رجال الدين أنماط سلوكهم وصيغ خطابهم التى لم تتغير خلال قرون هيمنتهم واستمتاعهم بمميزات استثنائية. صحيح أن الاسلام، كما يشاع عنه، لا يعرف الكهنوتية، ولكنه صحيح أيضا أن الأزمة الراهنة فى العلاقة بين رجال الدين والمجتمعات التى يعيشون فيها سببها ما راج من حقائق وأساطير عن سلوك كثيرين من رجال الدين وعن طموحاتهم السياسية. هذه الأزمة لن يحلحلها اعتذار من القمم الدينية يصدر فى شكل خطاب أو بيان. هناك أيضا اضطهاد المصريين المسلمين للمصريين المسيحيين والظلم الذى وقع على شعوب أفريقيا من دول الاستعمار والخراب الذى حل بالعراق على أيدى القوات المسلحة الأمريكية وقوات المرتزقة. هناك الإبادة المنظمة لتاريخ وحقوق شعب فلسطين على أيدى الغزاة من اليهود. كلها وقائع وأوزار أخطاء وظلم لن يخفف منها إلا اعتذار عنها تضمنه إجراءات حقيقية تضمن عدم تكرارها وإزالة آثارها.

***

أشكرك على التزامك حسن الإنصات كعادتك. أفوضك فى أن تنقل لزوجى، ولكل من أخطأ وأراد الغفران، أن يعيد صياغة اعتذاره بحيث يتضمن ضمانات جادة بعدم التكرار. إذا لم يفعل وعاد إلى اعتذاراته الجوفاء فستعذرنى إذا رفضت اعتذاره وأبقيته فى تاريخى معلقا بحبل واه يمكن أن ينقطع فى أى لحظة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved